وللعلماء في هذه الآية أقوال: أحدها: أن من اعتقد أن الله يراه ويراقبه سبحانه وتعالى في السر والعلن، فله جنتان، فهذا للمسلمين الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم، فهؤلاء خافوا مقام ربهم في السر والعلن، وقويت مراقبتهم لله سبحانه، ففي كل وقت وفي كل حين يشعرون بقوله تعالى:{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء:٢١٨-٢١٩] ، ويشعرون بقوله تعالى:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ}[يونس:٦١] ويوقنون كذلك بقوله تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[هود:٥] .
فهذا فريق من العباد قويت عنده مراقبة ربه سبحانه وتعالى، فأيقن أن الله معه في كل وقت وحين، فانزجر عن المعاصي وانكف عن الآثام، ويدخل فيهم الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم لما رأى برهان ربه وخشيه بالغيب، ويدخل فيهم ذلك الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ويدخل فيهم ذلك الرجل الذي قعد بين رجلي ابنة عمه، فلما قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، قام وتركها، ويدخل فيهم الكفل من بني إسرائيل، وإن كان الحديث فيه ضعيفاً، لكن معناه ثابت من نصوص أخر، والله لا يعجزه شيء، وفحوى حديثه قال النبي صلى الله عليه وسلم:(كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع عن ذنب عمله -أي: لا يبالي بأي ذنب- فجاءته امرأة يوماً تستسلفه مالاً، فراودها عن نفسها مقابل المال، فوافقت تحت ضغط الحاجة، فلما قعد بين رجليها أرعدت وبكت، فقال لها: ما لك؟! أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكنه شيء ما حملني عليه إلا الحاجة، فقام من فوقها وقال: لا جرم لا أعصين الله بعد هذه الليلة أبداً، ومات من ليلته فأصبح مكتوباً على بابه: إن الله قد غفر للكفل) .
الشاهد: أن خوف مقام الرب سبحانه تندرج تحته كل هذه المفردات وغيرها.
وأيضاً من خوف مقام الرب معنى آخر وهو: تذكر لقائه يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري من حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدم، وينظر من أمامه فلا يرى إلا النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بكلمة طيبة فليفعل) ، فهذا أيضاً داخل في الخوف من مقام الرب سبحانه، ومن لقاء الرب سبحانه وتعالى.