للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أصحاب اليمين وما أعده الله لهم]

ثم قال سبحانه: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:٢٧] تعظيماً لشأنهم، وهم الدرجة الثانية من أهل الجنة الذين يعبر عنهم في بعض المواطن بالأبرار، كما قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:٥-٦] فالأبرار هنا هم أصحاب اليمين، وعباد الله الذين ذكروا في قوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:٦] هم المقربون.

فأهل اليمين {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:٢٨] ، وقد تقدم أن بعض الأعراب ذكر لبعض السلف الصالح رحمهم الله هذه الآية وقال: كل ما في القرآن حسن، لكني أقرأ آية فيها {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:١٤] ، والسدر شجر ذو شوك وهو مؤذٍ، فقال له العالم رحمه الله تعالى: ألم تقرأ قوله تعالى: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:٢٨] ؟ فالمخضود الذي أزيل شوكه، أي: الذي أبعد شوكه.

فلما أبعد منه الشوك ما بقي منه إلا الحسن، كما تقدم في تأويل قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:١٤] أي: شجرة السدرة التي تغشاها من أمر الله ما تغشاها، فأصبحت لا تكاد توصف، بل لا توصف مما حل بها من البهاء والحسن والجمال.

قال الله سبحانه وتعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:٢٩] ، والطلح -على رأي الأكثرين- الموز، أما المنضود فمعناه: المتراكب بعضه فوق بعض، ومنه قوله تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:١٠] أي: متراكب بعضه فوق بعض، فالطلح المنضود هو الموز، إذ يكون بعضه مركباً فوق البعض الآخر كما هو معلوم ومشاهد.

قال تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:٣٠] ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها) ، قال أبو هريرة، وفي بعض الروايات أن القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:٣٠] ) فالظل الممدود هو الظل الطويل كما بينه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:٣١-٣٣] .

يقول الله سبحانه: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:٣٤] من العلماء من قال: إن المراد بالفرش السرر كما فسرتها الآية الأخرى {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:١٣] ، وقد يكون المقصود أنها مرفوعة المكان والقدر، ومن ذلك يستفاد أنه يجوز في الدنيا أن تنام على سرر مرفوعة، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم سرير ينام عليه صلى الله عليه وسلم.

{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:٣٤-٣٥] يقيناً أنها لا ترجع إلى الفرش لقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:٣٦] ، فقوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:٣٥] أي: خلقناهن خلقاً جميلاً، وهو راجع إلى شيء محذوف مفهوم من السياق، إذ يستحيل أن يرجع إلى ما قبله؛ لأن الله قال: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:٣٥-٣٦] ، إلا أن قائلاً قال: إن المراد: من ينام على الفرش، لكن الأولى والأوجه أن يقال: إن قوله تعالى: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:٣٥] أي: خلقناهن خلقاً جميلاً ووسيماً وفيه كل صفات الحسن عائد على شيء محذوف مفهوم من السياق.

وهذا يتكرر كثيراً جداً في كتاب الله، وقد ضربت له أمثلة: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:٣٢] أي: حتى توارت الشمس بالحجاب، {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:٨٣] ، فالتي بلغت الحلقوم هي الروح، وقد فهمت من السياق، وكذلك هنا {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:٣٥] ، فبعد أن كن نساء الدنيا عجائز، وكن عمشاً ورمقاً -كما قال العلماء- ردهن الله سبحانه وتعالى رداً جميلاً وخلقهن خلقاً حسناً، فقال: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:٣٦] أي: رددن إلى البكارة مرة ثانية، {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:٣٧] ، والعرب من النساء هن المتحببات إلى الأزواج، وهن النساء اللواتي أحببن أزواجهن، وتلطفن مع أزواجهن بالمقال وبالأسلوب والعبارات، وهن المتغنجات للأزواج كما قال العلماء.

وهذا كله يستحب في زوجة الدنيا، أي: يستحب أن تتحبب إلى زوجها، وتتعمد ذلك بالكلام الطيب الهادئ المريح، بل يشرع لها أن تبالغ في ذلك بل وأن تكذب في ذلك كي يقبل عليها زوجها ويحبها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص في كذب المرأة على زوجها، ومحل هذا أن تظهر له عظيم محبتها وودها له.

{عُرُبًا} [الواقعة:٣٧] أي: متحببات إلى الأزواج {أَتْرَابًا} [الواقعة:٣٧] في سن واحدة، {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:٣٨] .