[تفسير قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون)]
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يقول الله سبحانه في كتابه الكريم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:١] (ن) للعلماء في تفسيرها أقوال: أحد هذه الأقوال: أن (ن) حرف من الأحرف التي بُدئت بها السور كـ (ص) و (طه) و (ألم) و (ق) و (يس) إلى غير ذلك.
القول الثاني: أن (ن) المراد به الحوت، وكما في السورة نفسها، {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:٤٨] ، وصاحب الحوت ذكره الله في سورة الأنبياء، فقال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:٨٧] ، فالقول الثاني من الأقوال: أن (ن) المراد به الحوت، ومما أيد ذلك ذكر صاحب الحوت في هذه السورة، وصاحب الحوت هو ذو النون كما في السورة الأخرى.
والقول الثالث: أن المراد بـ (ن) الدواة، فأقسم الله بالقلم، وبالدواة التي يغمس فيها القلم، لتمده بالحبر والمداد.
القول الرابع: أن المراد بـ (ن) اللوح الذي يكتب فيه بالقلم.
فهذه أشهر الأقوال في تفسير قوله: (ن) .
أيضاً للعلماء في الحوت أقوال لا ينبني أي شيء منها على حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من قال: هو حوت يحمل الأرض، ومنهم من قال: هو الحوت الذي التقم يونس، إلى غير ذلك من الأقوال.
{ن وَالْقَلَمِ} الواو في قوله سبحانه: (وَالْقَلَمِ) واو القسم، وكما أسلفنا مراراً أن أحرف القسم ثلاثة: الواو والباء والتاء، فالواو هنا واو القسم على رأي كثير من العلماء، فأقسم الله بالقلم.
وما المراد بالقلم؟ من أهل العلم من قال: المراد بالقلم قلم مخصوص وهو أول قلم خلقه الله، وهو أول الخلق على الإطلاق، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يصح بمجموع طرقه: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) ، فمن العلماء من قال: إن المراد بالقلم: القلم الذي خلقه الله أول ما خلق، وكتب به مقادير كل شيء، والحامل لهم على هذا الاختيار أنه درج في كتاب الله على أن الله سبحانه وتعالى يقسم بعظيم المخلوقات، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:٥-٧] ، {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات:١] ، {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:١] ، فيقسم الله بعظيم المخلوقات، ولا يقسم بأشياء يسيرة من خلقه، مع أن كل خلقه عظيم، لكن ما تجد ربنا أقسم بالنملة مثلاً، ولا بالبعوضة، ولا بالخنافس، ولا بالصراصير، مع أنها كلها مخلوقات لله، لكن ربنا يقسم بعظيم المخلوقات، فهذا حمل بعض العلماء على أن يقول: إن القلم هنا قلم مخصوص، وهو أول قلم خلق، وهو الذي كتبت به مقادير الخلائق.
ومن العلماء من قال: هو عموم الأقلام، وليس المقسم به قطعة خشب، وإنما المراد أهمية هذا القلم، وما ينبني عليه، فالقلم النوع الثاني من أنواع البيان، فرب العزة سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:٣-٤] ، فالبيان بيانان: بيان بالقلم، وبيان باللسان، وقال الله سبحانه وتعالى في أول سورة نزلت على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:١-٤] ، فالقلم نعمة امتن الله بها على العباد.
فقد يطرح
السؤال
لماذا وهو نعمة امتن الله بها على العباد لم يعلمها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومع أن العلم محمود، والجهل مذموم، فلماذا حرم النبي صلى الله عليه وسلم هذه النعمة؟ أليس تعلمها داخلاً في قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:١١٤] ، ويتوصل بالقراءة والكتابة إلى الاطلاع على العلوم الشرعية؟! فالإجابة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع هذه النعمة لعلة أعظم، ذكرها الله في كتابه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:٤٨] ، فلدفع الارتياب والشكوك عن الناس جعل الله الرسول صلى الله عليه وسلم أمياً.
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:١] أي: وما يسطِّرون أي: وما يكتبون، فأقسم الله بالآلة، أي: بالقلم وبما كتبته الآلة: القلم وبما كتبه القلم، وعلامَ كان القسم؟! {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:٢] فالله يقسم على أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون، كما وصفه الواصفون، فقد وصفه القرشيون المشركون بالجنون ورموه به، كما قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:٦] فأنت عندما ترى الناس كلهم يقذفونك ويصفونك بالجنون، قد يتسرب إلى نفسك شك أن بك شيئاً من كثرة ما تسمع؛ لأن كل هؤلاء يصفونك بالجنون وتتساءل: هل أنا على خطأ أو على صواب؟! فرسولنا وصفه الكفار بهذا الوصف، كما وصف إخوانه من المرسلين، فقد وصف بذلك نوح صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {كَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:٩] .
وهكذا عموم الأنبياء، فربنا سبحانه وتعالى هو الذي دافع عن نبيه محمد عليه الصلاة والسلام بنفسه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:٣٨] ما أنت بمجنون من فضل الله عليك، {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [القلم:٢] أي: من نعمة الله عليك، أنك لست بمجنون، أي: بحمد الله لست بمجنون {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:٢] أي: ما أنت بمجنون، وجاءت كلمة {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [القلم:٢] اعتراضية، فيكون المعنى: ما أنت بمجنون، لكن عززت بقوله {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} ، ويصبح المعنى: ما أنت بفضل الله عليك بمجنون.