[طعام أهل النار في الأحقاب المذكورة في الآية]
قال تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} في هذه الأحقاب ما هو طعامهم وما هو شرابهم؟ {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} ، والبرد هو البرد المعهود الذي يبرد على القلوب والأبدان، وهذا قول الجمهور، ومن أهل العلم من قال: إن البرد هو النوم، واستدل ببيت من الشعر: بردت مراشفها عليَّ فصدني عنها وعن قبلاتها البرد أي: النوم، إلا أن ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى قال: وكتاب الله إنما يفسر على المعهود المشهور من كلام العرب، ولا يفسر على اللغات القليلة، وإن كان البرد من معانيه النوم، لكن يُفسَّر على الغالب الدارج في لغة العرب، فالبرد هو البرد المعهود.
{إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ:٢٥] ، والحميم هو: الماء الحار الذي بلغ النهاية في الحرارة، والغساق هو: البارد الذي بلغ النهاية في البرودة، فيشرب الكافر شيئاً ساخناً في غاية السخونة، قد بلغ أعلى درجات الحرارة، ثم يعقب بشيء بارد في غاية البرودة، عياذاً بالله.
قد يقول قائل: هنا قال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} ، وفي الآية الأخرى قال: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:٦] ، وفي الآية الثالثة قال: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:٣٦-٣٧] ، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ فالإجابة: أنهم في أزمان معينة وفي أحقاب معينة لا يذوقون البرد والشراب، وفي أحقاب أخرى لا يذوقون إلا الغسلين الذي هو صديد أهل النار، وفي أوقات أخرى {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} ، وهو نبات ذو شوك، وهو أخبث أنواع النبات، ويكون يوم القيامة في جهنم، فهذه الأطعمة تتنوع أوقاتها، فوجبة لهم فيها غسلين، ووجبة لهم فيها طعام من ضريع، ووجبة {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} .
وقوله تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا} {إِلَّا} هي هنا بمعنى: لكن، عند بعض العلماء، أي: لكن يذوقون الحميم والغساق، فالحميم والغساق ليس من البرد والشراب، فهو استثناء منقطع، من غير جنس المستثنى منه، فهذا الذي يسميه العلماء: استثناء منقطع، وهو الذي يصلح أن تدخل عليه أن، فيقال: لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلا أنهم يذوقون الحميم والغساق، فإذا صلح أن يدخل عليه (أن) عند بعض اللغويين فهو استثناء منقطع.
والاستثناء المنقطع له أمثلة، كقول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس (وحضر القوم إلا حماراً) فالحمار ليس من جنس القوم، فهذه أمثلة للاستثناء المنقطع.
{جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:٢٦] ،أي: جزاءً موافقاً لأعمالهم السيئة التي عملوها، فالجزاء من جنس العمل.
{إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} [النبأ:٢٧] .
(لا يرجون) : من العلماء من قال في معناها: لا يخافون، واستدل بقوله تعالى حاكياً قول نوح لقومه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:١٣] ، أي: لا تخافون الله عز وجل، فمنهم من قال: إن المراد بالرجاء هنا الخوف، أي: لا يخافون حساباً على أعمالهم.
ومنهم من قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا} ، أي: لا يرجون ثواب الأعمال التي يعملونها، والقول الأول عليه الأكثر.
{وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ:٢٨] ، أي: تكذيباً شديداً، {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ:٢٩] أي: كل شيء عملوه أحصي عليهم في كتاب، والآيات تؤيد هذا المعنى بكثرة، قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩] ، وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:٢٩] ، وقال تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:١٣-١٤] ، وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:١٨] .
{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} ، أي: عددناه وكتبناه كتاباً، {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:٣٠] .
وقيل: إن قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ، خاص بأهل القبلة، وهذا التأويل وإن كان في معناه صحيح، فإن من أهل القبلة من يمكث في النار أحقاباً ثم يخرج، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله) إلا أن لفظ: الطغاة هنا يتنزل على الكافرين لقوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} ، وهذا حال الكفار.