[تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم)]
قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥] من أهل العلم من قال: إن معنى الآية الكريمة: أقسم بمواقع النجوم.
وقد يقول قائل: كيف يقول ربنا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥] وتقولون: تأويلها: أقسم بمواقع النجوم؟ وكيف يقول الله سبحانه: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:١] وأنتم تقولون: معناها أقسم بهذا البلد، فقلبتم النفي إثباتاً؟ فالإجابة: إن الحامل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أقسم بمواقع النجوم وأقسم بالبلد، فهذا الذي حملنا على أن نقلب هذا الذي زعمت أنه نفي إلى إثبات، أما قسمه بالبلد فقد قال الله تعالى، وقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:١-٣] .
أما قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥] فقد قال سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:١] .
فأقسم بالنجم عند سقوطه، وقال سبحانه: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:١] فأقسم الله أيضاً بالطارق وهو النجم الثاقب كما في الآية الكريمة، فهذا يلزمنا أن نأتي بتأويل وجيه لقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥] ، وقد تقدمت أمثلة لهذا متعددة، فمن العلماء من قال: إن كلمة (لا) هنا زائدة، وفي لغة العرب تأتي أحرف أحياناً زائدة، ومن العلماء من قال: إنها صلة لتقوية الكلام كما قدمنا مراراً، أي: إذا قلت: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥] أقوى من أن تقول: فأقسم بمواقع النجوم، فجاءت (لا) صلة لتقوية الكلام، كما أقول لك: إذا ما جئتني أكرمتك، ويصلح أن أقول: إذا جئتني أكرمتك، لكن قوة: إذا ما جئتني أكرمتك أقوى من قولنا: إذا جئتني أكرمتك.
ولهذا أمثلة ونماذج قدمناها مراراً كما في قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:١٢] أي: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك.
وكما في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [الحديد:٢٩] فالمعنى: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء، وكما في قوله تعالى كذلك: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:٩٥] أي: أنهم يرجعون، أي: محرم على قرية أن أهلكت إن يرجع أهلها مرة ثانية إلى هذه الحياة الدنيا.
فقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥] قسم، ومن الأدلة على أنه قسم: قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:٧٦] ، (مواقع النجوم) من العلماء من قال: أماكن سقوط الثريا، أي: الأماكن التي تسقط فيها هذه النجوم، أو التي تدور فيها هذه النجوم، ومن العلماء من نحى منحى آخر فقال: إن المراد بقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:٧٥] مواطن نزول الآيات، فقال: إن القرآن نزل منجماً، فكانت الواقعة تحدث فتنزل فيها الآية، فهذه الأوقات والمواطن التي تنزل فيها الآيات عند حدوث الوقائع تسمى نجوماً، فيقال: القرآن نزل منجماً، يعني: مفرقاً على حسب الوقائع، فقال فريق من أهل العلم: إن مواقع النجوم أوقات نزول الآيات.
{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:٧٦] في هذا ما يشير إلى أن الأقسام منها أقسام عظيمة، ومنها أقسام دونها في العظم، فالأيمان تتفاوت، فهناك لغو يمين، وهناك يمين منعقدة، فاليمين المنعقدة أقوى من لغو اليمين بل لغو اليمين لا يؤاخذ عليها العبد، والأيمان المنعقدة -في نفسها- تنقسم إلى أقسام، فالأيام المنعقدة التي تتكرر كأن تقول: أقسم بالله العظيم.
أقسم بالله العظيم.
أقسم بالله العظيم؛ أقوى من قولك: أقسم بالله.
مرة واحدة.
ومن العلماء المالكية من فسر قوله تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:٩١] قال: توكيد اليمين هو تكريرها.
والأيمان التي تنشأ ابتداءً أقل رتبة في العظم من الأيمان المصبورة التي يحبس عليها صاحبها، والأيمان المصبورة التي حبس عليها صاحبها أيضاً تتفاوت في العظم، فمثلاً: إذا حبس شخص بعد الصلاة كما قال الله سبحانه: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة:١٠٦] أي: صلاة العصر، فإذا حبس في مسجد كمسجد التوحيد -مثلاً- فليس ذلك كمن يحبس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقواها رجل حبس على يمين بعد صلاة العصر عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه أعظم من اليمين الأخرى، وإن كانت كلها أيمان منعقدة.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:٧٦-٧٨] والمكنون هو: المحفوظ.