[من أحكام التعزية]
فضيلة الشيخ! مصطفى العدوي تعودنا مع إخواننا أن نطرح مسائل فقهية على سبيل المناقشة، ومعرفة كيفية الاستدلالات، ومعرفة ما هو المكروه وما هو المحرم، وإن خالف هذا المستقر في الأذهان في مسألة من المسائل، فطرح المسائل بهذه الطريقة إن شاء الله يوصل إلى نتيجة محمودة، وإلى اتساع في الآفاق بمشيئة الله تعالى، والحمد لله أن إخواننا الجالسين طلبة علم، وليس فيهم كثير عوام، فلنطرح مسألة ونوجه السؤال فيها إلى أحد إخواننا، ونرجو ألا يجد في نفسه علينا، إذ المجال مجال مناقشة ومجال وصول إلى الخير إن شاء الله تعالى بالدليل من الكتاب أو السنة.
و
السؤال
رجل من أهل القاهرة، ومن وجهاء القاهرة، له شقة يمتلكها هناك، فمات له ميت وله أصدقاء من المنصورة، ومن الإسكندرية وطنطا، تربطهم به صداقة قوية، فلما مات له الميت توقَّع يقيناً أنه سيأتيه أصحابه إذ قد علموا بالوفاة التي حدثت له مع العلم أن هذه الشقة مليئة بالأغراض المعيشية، فمات له ميت وله أصدقاء سيأتونه يقيناً من عدة بلدان بعيدة، وسيأتيه عدد ضخم من الزوار والمعزيين، فقال لي: ماذا أصنع لاستقبال هؤلاء الأضياف الذين أتوني للتعزية، والسؤال لك: هل التعزية في الميت مشروعة أو ليست بمشروعة؟
الجواب
ورد حديث: (لا عزاء بعد ثلاث) وهو ضعيف، فعلى كلٍ أننا في اليوم الأول أو الثاني، والتعزية مشروعة.
وأنا لست بمخطئ إذا ذهبت إليه من المنصورة كي أعزيه في القاهرة، وأنا ما شددت إليه رحلاً، وأما حديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ، ما هو المستثنى منه؟ هل شد الرحال لطلب العلم حرام؟ وزيارة أخي في القاهرة مثلاً أو زيارة عمي في الإسكندرية ما المانع منه؟ إذاً: إذا ذهبت أنا وإخواني لتعزية صديقي في القاهرة، فوجدنا البيت ضيقاً لا يسع، هل يجوز لي أن اعمل لهم خيمة في الشارع يجلسوا فيها؟ الآن البيت ضيق، وما وجدت في البيت سعة، والجو حار، فوضعنا خيمة تغطينا من الحر أو البرد هل هذا جائز أو هناك خلاف؟ وهل هناك شيء شرعي يمنع؟ ثم إن وجدت الناس في الخيمة يتكلمون ويلغون بالكلام، فقلت: أحضر مسجلاً مع شريط للحصري يتعظون به هل يجوز أو لا يجوز؟ وربما هناك من يقول: إن استماع القرآن خير من اللغو.
الآن: أنا كسائل من العوام طرحت المسألة بكل حيثياتها، هل هذا الشيء بهذه الملابسات المحيطة حرام؟ هناك حديث جرير رضي الله عنه: (كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنيعة الطعام بعد دفنه من النياحة) ، والحديث ضعيف فيه هشيم بن بشير وهو مدلِّس وقد عنعنه، وأحمد بن حنبل رحمه الله قال في إجاباته لـ أبي داود في العلل: لا أرى لهذا الحديث أصلاً.
فالحديث ضعيف، وعلته عنعنة هشيم بن بشير عن إسماعيل بن خالد، وقال بعض العلماء: سقط بينهما شريك، وقيلت أقوال أُخر، وقد حسنه البعض، فهذا رأي الإمام أحمد، والدارقطني أيضاً فإنه ذكر كلاماً حول هذا الحديث في العلل.
الحقيقة -يا إخوة- الفتوى بالتحريم لا تُطاق، وتعليم الناس السنة ينبغي أن يكون شيئاً فشيئاً.
وأما أمر التعزية على المتيسر، ويجوز أن تعزي بالتلفون أو الطريق أو البيت، أو العمل، على المتيسر، لكن الفتيا بالتحريم دائماً تحتاج إلى تمهل وتريث، وقبل أن تفتي بالتحريم مع هذه الملابسات المحيطة بمسألتنا لابد أن تعلم أن كل مسألة تقدر بقدرها، وتكون هذه وصفة خاصة بالجواز لمن هذه حاله، ولا تطَّرد فيما سواها، والله أعلم.
ويجب ملاحظة أننا لا نقول فتوى عامة: أن الخيمة جائزة، ويقف صف طويل يعزي، وبالسيارات الفارهة التي جاءت تعزي، لا، لم نقل بهذا، تكلمنا على فتوى معينة في ملابسات معينة، والأصل في التعزية على ما تيسر، في البيت في العمل بالهاتف في الطريق في اليوم الأول اليوم الثاني اليوم العاشر كله جائز.
شخص مثلاً يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ عزاء جعفر بن أبي طالب في المسجد! أقول: إن هذا لم يثبت، ومن وجده فليأتنا به.
إذاً: السنة أن التعزية على ما تيسر كما سمعت، والرسول لما مات جعفر أمهل ثلاثاً ثم ذهب إلى أهله يعزيهم، فالسنة أن تعزي كما جاء، لكن إن جاءنا شخصٌ له ملابسات خاصة يجوز لنا أن نفتيه بفتاوى خاصة على قدر حاجته وانتهى الأمر، والله أعلم.