[تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انشقت.]
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:١-٢] .
قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} {انشَقَّتْ} معناها: تصدعت وتشققت.
لماذا تتصدع وتتشقق؟ قد أسلفنا الإجابة على هذا: أنها تتشقق كي تنزل منها الملائكة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} أي: عن الغمام، {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:٢٥-٢٦] ، فتتشقق السماء كي تنزل منها الملائكة.
{إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ} [الانشقاق:١-٢] معنى (أذنت) : استمعت، أما الدليل على أن المراد بها استمعت فقوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:٦١] أي: يقولون: هو سمّاع.
أي: أننا نشتمه وإذا جئنا واعتذرنا إليه بأي عذر قبله فهو رجل سمّاع لكل ما يقال له.
الشاهد: أن قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:٦١] أي: سمّاع.
الشاهد الثاني: من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به) ، أي: ما استمع الله لشيء استماعه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به.
ومن لغة العرب قول القائل: صم إذا سمعوا خيراًَ ذكرت به فإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا (أذنوا) أي: استمعوا.
فدلت هذه الأدلة من الكتاب والسنة ولغة العرب على أن المراد بالأذن في قوله تعالى: (أَذِنَتْ) أي: استمعت.
ما معنى استمعت؟! وهل السماء تفهم وتستمع؟! الإجابة: نعم.
فالسماء استمعت لأمر الله سبحانه وتعالى، ولها فهم، لكن كيفيته يعلمها الله، والدليل على ذلك: قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:٧٢] ، فالسماوات والأرض والجبال أبين أن يحملن الأمانة، فدل ذلك على أن لهن فهم يعلمه الله، فمن ثم رفض قبول الأمانة وحملها {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:٧٢] .
ودليل آخر على أن للسماء فهم يعلمه الله: قوله سبحانه وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:٢٩] ، فدل ذلك على أن السماء لها بكاء.
أي: تبكي على أهل الصلاح الذين كانت ترفع أعمالهم الصالحة من أبواب السماء فإذا ماتوا انقطعت الأعمال الصالحة فبكت عليهم السماء، أما أهل الفجور والعصيان فلا تبكي عليهم السماء، كما قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} ، وكذلك الأرض في نفس المعنى.
يقول الله سبحانه وتعالى: ((وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا)) أي: استمعت السماء لقول ربها ولأمر.
((وَحُقَّتْ)) أي: حقق الله عليها الاستماع، حق عليها أن تستمع لله، وهناك قول آخر، أي: وجدير بها أن تستمع لأمر الله سبحانه وتعالى.
ومن العلماء من قال: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي: سمعت لربها وأطاعت.
{وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق:٣] أي: بسطت وزيد في مساحتها وطولها، فبعد أن كان يعتريها الأمت والجبال فيوم القيامة تزول الجبال وتفرض الأرض فلا يصبح فيها أمت -أي: لا يصبح فيها عوج- كما قال تعالى: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:١٠٧] ، فتمد الأرض وتبسط فيزاد في مساحتها، وعلى رأي القائلين بأن الأرض كروية فإن معنى مدها: بسطها وفردها، قال سبحانه في الآية الأخرى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:٤٨] ، فهي أرض أخرى أو هي نفس الأرض لكن يعتريها أشياء فتصبح كأنها أرض أخرى، والقولان لأهل العلم لكن الظاهر أنها أرض أخرى.