[سبب نزول الآيات الأول من سورة العلق]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد على آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن أول شيء نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:١-٥] ، فهذه الآيات هي أول آيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أهل العلم من قال: إن أول الآيات نزولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:١-٢] .
ولكن التحقيق يقتضي أن آيات العلق الأول هي أول ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوجيه القول الثاني بأن يقال: إن الآيات الأول من العلق نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سكن الوحي مدة طويلة، ثم نزل بعد سكون الوحي سورة المدثر، فظن الراوي أن المدثر هي أول ما نزل على رسول الله، ولكن يحمل قوله على أن أول ما نزل بعد فترة سكون الوحي هو سورة المدثر.
وسبب نزول هذه الآيات الخمس الأول من سورة العلق: ما ذكرته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) ، وعائشة لم ترَ هذا؛ بل كان هذا الحدث قبل ميلاد عائشة بخمس سنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على عائشة وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين، ومكث معها تسع سنين، فكان المجموع من ميلاد عائشة إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سنة.
أما هذه الآيات فقد نزلت قبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بثلاث وعشرين سنة، أي: أنها نزلت قبل ميلاد عائشة بخمس سنين، فكيف إذاً نوجه هذا؟ نقول: عائشة رضي الله عنها روت شيئاً لم تره، وهذا يسميه العلماء: مرسل الصحابي، فهو إما أن يكون الصحابي قد أخذه من رسول الله، بأن تكون عائشة أُخبرت من رسول الله بهذا، أو أن صحابياً آخر هو الذي أخبر عائشة، والصحابة كلهم عدول.
ومن هذا الباب رواية أبي هريرة لجملة أحاديث حدثت لرسول الله عليه الصلاة والسلام بمكة، ورواية ابن عباس لجملة أحاديث حدثت لرسول الله بالمدينة، وابن عباس لم يهاجر؛ بل كان من المستضعفين هو وأمه بمكة.
فالشاهد: أن كل هذه تسمى: مراسيل صحابة، والصحابة كلهم عدول، ومراسيلهم في حكم المتصل.
قالت عائشة رضي الله عنها: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) ، أي: تتحقق الرؤيا كما أن الصبح يتحقق، وهذه من علامات الصلاح في الغالب، فإن صدق الرؤيا من صدق الحديث، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) ، ولا يمتنع أن يكون هناك كافر تتحقق رؤياه أيضاً كما تحققت رؤيا الملك {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف:٤٣] لكن من العلماء من يحملها على أن الملك وإن كان كافراً لكنه كان صادق اللهجة، وهناك ملوك كفار لكنهم في لهجتهم أهل صدق.
قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد) ، الذي جاء في الحديث: يتحنث، والذي يقرأ الحديث يظن أن تفسير التحنث بالتعبد أنه من كلام عائشة، ولكنه ليس من كلامها؛ بل هو من كلام الزهري، وهذا يسميه علماء الحديث: المدرج، وهو: أن تنقل كلاماً عن شخص ثم تفسر إحدى الكلمات التي تكلمها الشخص، ولا تبين أن هذا التفسير من تفسيرك، فيظن القارئ أنه من كلام ذلك الشخص.
مثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد وبر أمي لأحببت أن أكون مملوكاً) فقوله: (والذي نفسي بيده لولا الجهاد وبر أمي) ليس من كلام رسول الله قطعاً؛ لأن أم الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قد ماتت، وإنما هو من كلام أبي هريرة.
فالإدراج: أن تدخل لفظة في الحديث تظنها من قول الذي نُقل عنه الكلام، وهي ليست من قوله.
قالت: (ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخرج إلى حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاء الملك، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني -أي: ضمني ضماً شديداً- وقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني وغطني الثالثة، قال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:١-٥] )) إلى آخر الحديث، وفي الحديث: (فرجع الرسول إلى خديجة وهو يقول: زملوني زملوني، من شدة البرد، ثم أخذته خديجة إلى ورقة بن نوفل، فقالت: اسمع يا ابن عم من ابن أخيك، فسمع ورقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخبر، فقال: هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم، ليتني أكون فيها حياً إذ يخرجك قومك، ليتني فيها جذعاً، قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودي) .
فالشاهد: أن هذا سبب نزول هذه الآيات الخمس.