للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[آيات تقر بربوبية الله سبحانه]

قال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة:٥٧-٥٨] تمنون أي: تقذفون المني وتسيلونه، ومنه قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة:٣٧] أي: يهراق ويسال ويندفع.

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة:٥٨-٦٠] ، أي: وما نحن بعاجزين كما قول بعض أهل العلم {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:٦١] أي: نحولكم إلى صور أخرى لا تتخيلونها ولا تتوقعونها كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس:٦٦-٦٧] ، فقوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:٦١] أي: ننشئكم في صور أخرى من الخلق لا تعلمونها، قد تطمس وجوهكم فترد كالقفا كما صنع بأقوام من قبل، وليست الآية الكريمة دليلاً على المبدأ الهندوسي الكافر الذي يتبناه الكفرة من أهل الهند بقولهم بتناسخ الأرواح، أي: أن الشخص عندهم إذا مات وكان صالحاً فإن روحه تحل في شيء طيب، وإن كان فاسداً ومات، فإن روحه تذهب إلى كلب أو قط أو حية أو ضفدعة، والأرواح الطيبة بعد أن يموت صاحبها لا تموت هي، بل تتحول إلى أشياء بحسب صلاح الشخص أو فساده.

والآية لا تدل على هذا المبدأ الكافر، فالله سبحانه وتعالى يحذر من مسح الأجساد في هذه الآية {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:٦١] كما مسخ بني إسرائيل إلى قردة وخنازير، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:٦٢] أي: علمتم كيف خلقناكم أول مرة فلولا تتعظون وتعتبرون.

وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:٦٣] ذكرت الآية الكريمة الحرث، ولم تنتقص من يحرث ويزرع، وقد أورد بعض الألمان الكفرة شبهة على أحد المسلمين قليلي العلم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال هذا الألماني الكافر لرجل من المسلمين: ما هو أصح كتبكم المعتمدة بعد القرآن الكريم؟ قال: صحيح البخاري.

قال: إن في صحيح البخاري حديثاً فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على قوم، فوجد عندهم في البيت سكة من حديد -وهي بمعنى: آلة الحرث- فقال: (لا يدخل هذه الآلة قوم في بيوتهم إلا أصابهم الذل) ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هاهو دينكم يدعو إلى التخلف، كيف لا يدخل القوم آلة الحرث إلا أدخلوا على أنفسهم الذل؟ فالرجل علمه بالسنة ضعيف، فحاول أن ينكر هذا الحديث، فلما أثبت له أن هذا الحديث في صحيح البخاري حاول أن يؤول أو يدعي أن الحديث مدسوس، والحديث ثابت صحيح، ولكن آفة عدم الفهم هي التي تسربت إلى هذا الرجل، فهذا الحديث بعينه يدعو إلى التقدم وإلى التسلح، فمعناه: أنكم -يا معشر المسلمين- إذا رضيتم بالزرع، وتركتم آلات القتال وآلات الحروب، إذا عمدتم إلى المزارع وإلى الفئوس وإلى آلة الحرث فقط، وتركتم صناعات الحروب كالسيوف والدروع وملحقات ذلك الآن كالطائرات والصواريخ، ونحو هذه الأسلحة التي تكف شر عدوكم بإذن الله، وانعكفتم على الحرث؛ فإن عدوكم سيتسلح ويتسلط عليكم، فيسلب ما بأيديكم وينزل بأسه بكم، ولكن إذا تسلحتم وتقويتم مع هذه الآلة فإنكم ستأمنون شر أعدائكم، فهذا هو الفهم الصحيح، أما ديننا فإنه يدعو إلى الزرع والحرث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة -وهي: النخلة الصغيرة التي لا تنبت إلا بعد سنوات طويلة- فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له أرض فليمنحها أخاه أو ليزرعها) ، فلا يتركها، فإما أن يزرعها هو وإما أن يمنحها أخاه.

إلى غير ذلك من النصوص الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، وهي نصوص في غاية الكثرة.

قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} [الواقعة:٦٣-٦٤] أي: تنبتونه وتخرجونه {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:٦٤-٦٥] محطماً مدمراً {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:٦٥-٦٧] أي: لظلتم تتعجبون مما حدث وتضربوا بيد على الأخرى قائلين (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) .

وقوله تعالى: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة:٦٦] فيه قولان: قيل: إننا كنا ننتظر الناتج للثمرة حتى نسدد بها الديون، والآن قد دمر هذا الزرع، فوقعنا في الغرم وهي الاستدانة، فطائفة منهم يقولون: إنا لمغرمون، وطائفة أخرى تقول: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:٦٧] ، وقيل: هي طائفة واحدة تقول هذا ثم تقول: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:٦٧] .

قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة:٦٨] استدل بذلك بعض أهل العلم على أن الشرب يكون بعد الأكل، وقد خالف بعض أهل الطب في ذلك فقالوا: إن الشرب بعد الأكل مضر، ولكن من العلماء من استأنس بهذه الآية، وبقوله تعالى -مع الفارق-: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:٥١-٥٢] إلى قوله: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة:٥٤] ، وهنا قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة:٦٣] ، ثم عقب بقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} [الواقعة:٦٨] .

{أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:٦٩] فالله هو الذي سخر السحاب، وهو الذي أنزل منها ماءً ثجاجاً.