قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}[النساء:٩٤] ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ) أي: سافرتم، والضرب في الأرض معناه: السفر، قال تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ}[المزمل:٢٠] ، وقال جل وعلا:{َإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}[النساء:١٠١] ، وقال صلى الله عليه وسلم (ضربت الشياطين مشارق الأرض ومغاربها) ، {ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[النساء:٩٤] أي: خرجتم غزاة مسافرين في سبيل الله.
(فتبينوا) في قراءة: (فتثبتوا) ؛ وذلك لأن المصحف لم يكن على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام منقوطاً، فكانت الكلمة بدون نقط لا فوق ولا أسفل فتحتمل القراءتين معاً، وقد نزلت الآية في طائفة من أصحاب رسول الله خرجوا غزاةً، فالتقوا برجل كان بين بعضهم وبينه ثأر قديم في الجاهلية، فسلم عليهم بتحية الإسلام، وكان معه غنم له، فقتلوه وساقوا غنمه، فنزلت فيهم الآية، وجاء أيضاً أنها نزلت في أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد أن قال: لا إله إلا الله، فيقول سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}[النساء:٩٤] ، والآية ليست على ما يفهمها الجهلة الذين ينتمون إلى جماعة التوقف -وهم من أجهل الطوائف- حيث أسسوا جماعة التبين بناءً على هذه الكلمة، والآية نفسها ترد عليهم، ففيها:{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}[النساء:٩٤] وهم يقولون للمصلين: لستم مؤمنين.
فالآية أخذوا منها كلمة (التبين) ، وبنوا عليها جماعة وجعلوا لهم أميراً من أجل كلمة التبين التي في الآية، فلو نظروا إلى آخر الآية:{لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}[النساء:٩٤] أي: احكموا لمن ألقى إليكم السلام بالإيمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:(من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المؤمن) ، وهم أبوا أن يقروا بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا}[النساء:٩٤] أي: إذا خرجتم غزاةً في سبيل الله -واصطلاح (في سبيل الله) محمولٌ على الجهاد- فتبينوا، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً}[النساء:٩٤] ، فالآية تفيد أن السلام من شعار المسلمين، ولذلك لما قدم موسى على الخضر سلم عليه، فقال له الخضر: وأنى بأرضك السلام! قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ فعلم الخضر أن موسى أتى بتحية المسلمين، فلذلك تعجب كيف يأتي من عند الفراعنة ويحمل هذه التحية! قال تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[النساء:٩٤] أي: بتهجمكم عليه وقتله، {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ}[النساء:٩٤] ، أي: تورعوا عن هذا المشبوه، وابتغوا الغنيمة عند الله سبحانه وتعالى، فالآية تفيد أن الشخص يترك المشتبه ويطلب الرزق الحلال الطيب من الله، فترك المشتبه سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا عبد الله بن سلام يقول لبعض التابعين:(إنك بأرض الربا فيها فاشٍ، فإذا أقرضت رجلاً وأهدى لك شيئاً فلا تقبله فإنه ربا) .
قال تعالى:{فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء:٩٤] ، أسامة بن زيد نزلت فيه الآية فكان يتمنى أنه لم يولد إلا بعد أن نزلت هذه الآية أو بعد هذه الغزوة؛ لأنه قتل نفساً مؤمنة بغير حق.
(أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة؟! قال: يا رسول الله! إنما قالها متعوذاً، قال: أقتلته يا أسامة! بعد أن قال لا إله إلا الله؟ كيف بك يا أسامة! إذا جاء بلا إله إلا الله يوم القيامة؟!) ، فقتل النفس المؤمنة -يا عباد الله- جرم كبير، وقد جاءت فيه نصوص الوعيد المتكاثرة غاية الكثرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.