تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ.)
قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:١٢-١٤] : (من) هنا للتبعيض في قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:١٤] ، فليس كل الأزواج أعداء، وليس كل الأبناء أعداء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما يكنز العبد المرأة الصالحة) ، وقال: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) ، وقال زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:٥-٦] ، وقوله: {وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:١٤] ، من أهل العلم من قال: ليست العداوة هنا أن ينصبوا لك العداء بالسيف ولا بالضرب، وإن كان هذا قد يرد في حق أقلية، لكن المراد بالعداوة هنا فعل ما يفعله الأعداء، فالعدو يطلق عليه عدو لفعله -عند بعض العلماء- وليس لذاته إلا في شأن الكفار.
فقوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:١٤] أي: إن من أزواجكم وأولادكم من يفعل بكم فعل أعدائكم من صرفكم عن طاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأعداء يصرفوننا عن طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك من الزوجات من تصرفنا عن طاعة الله وطاعة رسوله، فتتنزل حينئذٍ منزلة العدو، كذلك: إن من أبنائكم من يصرفكم عن طاعة الله وعن طاعة رسوله، فيتنزل هذا الابن منزلة العدو؛ لصرفه لك عن طاعة الله وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمؤدى من العدو ومن الزوجة الصارفة لك عن الدين ومن الابن الصارف لك عن الدين؛ مؤدى واحد.
فـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ} [التغابن:١٤] من يصرفكم عن دين الله، ومن تفتنون به فتصرفون بسببه عن دين الله، ومن تقعون في المحرمات بسببه، فثم امرأة تحمل زوجها على الكسب الحرام إشباعاً لشهواتها وإرضاء لنزواتها، فتفعل بزوجها فعل الأعداء الذين يحملونه على فعل الحرام، وكذلك كم من ابن يحمل أباه على أن يكتسب له من الحرام ويطعمه، فيفعل بذلك فعل الأعداء مع أبيه.
قال تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:١٤] ، ما وجه إيراد هذا عقب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:١٤] ؟ قال بعض العلماء: إن وجه الربط يتضح من سبب نزول هذه الآية، فإنه ورد في أسباب نزولها من طريق عن عكرمة عن ابن عباس -لكن فيها كلام-: (أن قوماً أرادوا الإسلام فخرجت لهم نساؤهم وخرج لهم أولادهم يرققون قلوبهم ويقولون: لم تفارقونا وتؤثرون علينا غيرنا؟ لم تذهبون إلى محمد هذا الذي به وبه؟ وطعنوا في رسول الله إلى أن أخروهم عن لقاء رسول الله، فلما التقى هؤلاء الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان قد سبقوهم فحملوا فقهاً كبيراً وسبقوهم في هذا الطريق، قالوا: والله لنرجعن إلى أهالينا وأزواجنا ولنفعلن بهم ولنفعلن، وتوعدوا أهاليهم الذين تسببوا في تأخيرهم عن الإسلام، فأنزل الله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:١٤] .
وهذا يتنزل على شخص انتظم مع جماعة من الجماعات التي لا تبني أعمالها على علم شرعي، جلس معها سنوات طويلة فما استفاد إلا القيل والقال، فلما اتجه إلى اتجاه يتعلم فيه كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال: لأرجعن إلى من كان يضللني ويصرفني عن كتاب ربي وسنة نبيي صلى الله عليه وسلم فلأعاتبنه ولأزجرنه، كيف جعل غيري يسبقني في هذا المجال! كيف وغيري قد حمل كتاب الله وحمل سنة رسول الله! وأنا ما زلت في بداية طريقي وقد كبر سني ورق عظمي؛ فلأذهبن إليه ولألومنّه ولأستبدن عليه! فالله يقول: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:١٤-١٥] أي: اختبار وابتلاء، يبتليكم الله في الأموال ويختبركم فيها وكذلك في الأولاد، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:١٥] فاتق الله في تربية الأولاد وافعل فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد كان رسولنا يسلك مسلكاً رشيداً في هذا الباب: حب وعطف وحنان مع حزم وعدل وإنصاف، صلوات الله وسلامه عليه.
فلا تهلك نفسك من أجل أولادك، فقد كان رسولنا يحب الحسن أشد الحب، يراه مقبلاً وهو يخطب على المنبر يوم الجمعة، فينزل من على المنبر عندما يرى الحسن والحسين مقبلين وعليهما ثوبان أحمران؛ ينزل من على المنبر ويترك خطبة الجمعة ويحتضن الحسن والحسين ويعلمنا ويقول: (صدق الله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:١٥] رأيت هذين فلم أصبر) ، ويرى الحسن فيحتضنه ويقول: (اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه) .
ومع هذا كله يرى في فم الحسن تمرة من تمر الصدقة فيستخرجها من فيه، ويقول: (كخ كخ، أما علمت أنَّا آل محمد لا نأكل الصدقة) .
وكان يحب فاطمة حباً جماً، كان إذا أقبل إليها قامت إليه فقبلته وأجلسته، وإذا أقبلت إليه قام إليها فقبلها وأجلسها، ومع ذلك يقول: (والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) ، هكذا يعلمنا نبينا محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم.
وقد تعلم منه أصحابه هذا فلم يفتنوا بأولادهم، عمر رضي الله تعالى عنه العدل العادل، يسمع عن ولده أنه شرب الخمر وأقيم عليه الحد، ولكن أقيم عليه الحد سراً، فلا يقتنع بإقامة هذا الحد على ولده، فكما يقام الحد على الناس يقام الحد على ولده، فأرسل إلى عمرو بن العاص بمصر أن أرسل إليَّ ولدي، فأتى به إلى مدينة رسول الله، فأقام عليه الحد على رءوس الأشهاد.
يقسم عمر الفيء والغنمية فيؤثر أسامة بن زيد على عبد الله بن عمر، فيقول ابن عمر رضي الله عنهما: يا أبتِ! كيف تؤثر أسامة عليَّ ولم يسبقني بمشهد في جاهلية ولا في إسلام، فيقول: إن رسول الله كان يحبه أكثر من حبه لك، فلذلك أوثر أسامة عليك! فهكذا العدل والإنصاف، لا تضيع نفسك من أجل ولدك، يا مدرس لا ترفع ولدك درجات وتبخس الأبناء الآخرين حقوقهم، فربك سبحانه وتعالى سائلك عما استرعاك؟ لا تجامل زملاءك من المدرسين ولا من الدكاترة في الجامعة، حتى يرفعوا ولدك درجات ويخرج ولدك معيداً وغيره أفضل منه ومتفوق عليه، فهذه من صور الفتن التي يبتلى بها الآباء مع أبنائهم، يحمل الابن أباه على الكسب المحرم من أجل إشباع الرغبات، {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء:١١] .