[تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد)]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في سورة البلد: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:١] وهذا قد يرد عليه إشكال! فقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالبلد، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:١-٣] ، فأقسم الله سبحانه وتعالى بالبلد.
والآية التي نحن بصددها: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} نافية للقسم بهذا البلد، وابتداء: البلد هي مكة، وقد نقل فريق من أهل العلم الإجماع على أن المراد بالبلد مكة، ثم نرجع فنقول: كيف نجمع بين قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} ، وبين قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:٣] ؟ للعلماء في ذلك أقوال: هذه الأقوال تنصب على تفسير: (لا) في قوله تعالى: (لا أُقْسِمُ) ، فمن العلماء من يقول: إن (لا) نافية لشيء قد تقدم، فالمعنى: أن المشركين كانوا ينكرون البعث، ويقولون: لا بعث، فقال الله لهم: (لا) فهناك بعث، ثم أكد هذا بقوله سبحانه: أقسم على ذلك بهذا البلد، هذا التأويل مبني على الربط بين السور ببعضها، وبين المعاني ببعضها، فهذا القول الأول، حاصله: أن (لا) نافية لشيء متقدم، ثم ابتدئ الكلام بقوله: أقسم على هذا المنفي بهذا البلد.
ووجه الاعتراض على هذا القول الأول: أن الأصل أن كل سورة مستقلة بنفسها، ولا دليل على أن نربط بين السورة والأخرى إلا إذا جاء في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: أن (لا) زائدة، ومثال ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:٢٩] ، فقوله سبحانه: (لِئَلَّا يَعْلَمَ) المراد به: ليعلم، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:١٢] ، فالمعنى: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك، و (لا) زائدة على قول بعض العلماء.
والشاهد من شعر العرب قول الشاعر: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع فـ (لا) أيضاً هنا زائدة.
واعترض على هذا: بأنه ليس في القرآن حرف زائد، وأجيب عن هذا الاعتراض: بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، ولغة العرب فيها أشياء زائدة كي يتكامل بها المعنى ويتسق.
القول الثالث: أن (لا) نافية، لكن ليس لشيء متقدم، إنما هو للشيء الآتي، فالمعنى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:١-٢] يعني: لا أقسم بهذا البلد أثناء وجودك، وقد أحللت لك هذه البلدة كما سيأتي بيانه، يعني: لا أقسم بهذا البلد أثناء وجودك فيه في الوقت الذي أحللت لك هذه البلدة تفعل فيها ما تشاء.
إذاً: هي ثلاثة أقوال للجمع بين قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} وبين قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:٣] : أحدها: أن (لا) نافية لشيء متقدم.
الثاني: أن (لا) زائدة.
الثالث: أن (لا) نافية باعتبار ما هو آت، يعني: لا أقسم بهذا البلد حينما أحللت لك هذه البلدة.
فقوله تعالى على فرض أن (لا) زائدة (أقسم بهذا البلد) ، فيه أن الله أقسم بالبلد، وبعض العلماء يورد هنا، وما كان في مثل هذا المقام تقديراً محذوفاً، فيقول مثلاً: قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:١] ، فيريد أن يفر من القسم بغير الله، وقال: إن الله لا يقسم إلا بنفسه، فقال: إن قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:١] ، (وَهَذَا الْبَلَدِ) فيها تقدير محذوف (لا أقسم بهذا البلد) أي: أقسم برب هذا البلد، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:١] أي: ورب الشمس وضحاها، وهذا القول قول ضعيف؛ لأنه إذا قلنا: إن المقدر ورب الشمس وما ضحاها، ورب القمر إذا تلاها، ورب النهار إذا جلاها، سنأتي إلى قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:٥] سنقع في إشكال، فكيف نقول: ورب السماء ورب ما بناها؟! فالذي بناها هو الله، فهذا وجه تضعيف هذا القول.