[تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.]
باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فقال: (اصرف بصرك) وقد ورد في الباب حديث علي وفي إسناده كلام: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) وهو حديث ضعيف لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام في معرض بيان غض البصر: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة) ، ومن الجهل والقبح والعار أن ترى رجالاً ونساء عراة، أو رجالاً يسبحون في البحر عراة كما ولدتهم أمهاتهم، وفي الأنهار والترع كالبهائم والعياذ بالله.
قال الله سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:٣٠] قد يقول قائل: إن حفظ الفرج آكد من غض البصر؛ لأن عدم حفظ الفرج كبيرة، أما إطلاق البصر ليس من الكبائر عند كثير من العلماء، لأن ابن عباس فسر اللمم بحديث أبي هريرة: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة: فالعين تزني وزناها النظر) فقال: ما رأيت أشبه باللمم المذكور في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:٣٢] مما قال أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة ... ) الحديث، فلماذا قدم الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج، مع أن حفظ الفرج أهم من غض البصر؟! صحيح أن حفظ الفرج أهم من غض البصر، لكن النظر هو الوسيلة إلى المحرم.
فالفرج لا يتحرك إلا بعد نظر، وكما قال الشاعر: ومعظم النار من مستصغر الشرر فالأمر بغض البصر أمر بسد الذريعة إلى الوصول إلى المحرم، فالزنا جعل له حمى حتى لا يقع شخص فيه، فلا تدخل بيت شخص إلا إذا استأذنت، ولا تنظر إلا إلى الذي أبيح لك، وقد قدمنا أن من الحمى الذي وضع للزنا: مصافحة المرأة الأجنبية، فإنها لا يجوز، والخلوة بالمرأة الأجنبية لا تجوز، سفر المرأة بدون محرم لا يجوز، والغناء الذي يثير الكامن ويهيج على الفاحشة لا يجوز، فللزنا حمى فليبتعد عنه الشخص، ومنه غض البصر.
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:٣٠] فيه أن ذكر الرجل يطلق عليه الفرج خلافاً لمن كره ذلك من العلماء، فمن أهل العلم من كره أن يقال عن عورة الرجل فرج، وقال: الفرج هو ما انفرج، أي: ما فتح، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:٦] فقال: إن الفرج مختص بالمرأة، لكن هذه الآية ترد عليه، لأن الله جل ذكره قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:٣٠] .
والمقصود أن يحفظوها عن الزنا، وعن اللواط، وعن الاستمناء، وعن نظر الأجانب إليها، وعن نظر من لا يحل له النظر إليها، وبالجملة عن كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى عليهم، قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما تقدم: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل) .
وقد ورد في الباب حديث محمول على الاستحباب، ألا وهو حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: (يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق -وذكر الحديث وفيه:- عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟) يعني: ما هو الشيء الذي يرى، وما الشيء الذي يترك؟ قال: (احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قال: الرجل يغتسل عارياً يا رسول الله؟! قال: الله أحق أن يستحيا منه من الناس) فمن العلماء من قال: وإن كنت وحدك استحب لك أن تستتر ولا تباشر السماء بفرجك، ولا تكن مكشوفاً، وحمل هذا على الاستحباب لا على الإيجاب؛ لأن نبي الله موسى اغتسل عرياناً، ولأن نبي الله أيوب اغتسل عرياناً، وهذا حيث لا يراهما الناس، لكن الكلام على الاستحباب في شريعتنا، والله تعالى أعلم.
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:٣٠] ، هذا التعقيب بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) [النور:٣٠] لأن للأعين خائنة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فقد تكون ماشياً مع شخص في طريق ولعينه خائنة وأنت لا تشعر بها، ولا تستطيع أن تضبطه بحال، يسارق النظر وأنت لا تشعر، كما قال سبحانه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩] فختمت الآية بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:٣٠] فمهما أخطأت على الناس فإن الله يعلم حالك ويطلع عليك.