[التوكل على الله والأخذ بالأسباب في مدافعة مكر الأعداء]
قال الله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} [النساء:٨١] يقولون: حالنا وشأننا أننا مطيعين لك يا محمد! (ويقولون طاعة) في الظاهر أنهم يظهرون الاستسلام والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:٨١] ، أصل البروز: الخروج والظهور.
أبرز فلان شيئاً، أي: أظهره، خرج فلان إلى البراز.
يعني: مكان الفضاء، {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:٨١] أي: خرجوا من عندك {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء:٨١] التبييت هو: التدبير بالليل، ومنه قول القائل: هذا أمرٌ بيِّت بليل، يعني: دبر بليل، ومنه قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:٩٧] ، قال الله: {فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء:٨١] أي: يكتب ما يدبرونه في الليل وما يتآمرون به.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النساء:٨١] ، هذا المعنى يستفاد منه: أن الشخص لا يشغل نفسه كثيراً بتدبيرات الأعداء التي لا طاقة له بها، ولا حيلة له معها، فشخصٌ قد ينام طوال الليل خائفاً من شيء لا يستطيع دفعه، وما قضاه الله لا بد أن يكون، فإذا كان الأمر كهذه الحالة فعليه أن يعرض عنهم {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [النساء:٨١] ومع إعراضك عنهم توكل على الله.
فمثلاً: إذا كنت تخشى طوال الليل المباحث أن يأتوك، أو تخشى اليهود، أو أي شيء تخشى منه، فعليك أن تجتهد وتعمل ما في وسعك، لكن إذا كنت تخشى شيئاً خارجاً عن طاقتك، فحينئذٍ {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:٨١] ، ومع إعراضك عنهم تتوكل على الله، وإن كانت هناك أسباب فاعمل بها، مع قولك: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم لما ألقي في النار -فلم تضره وكانت عليه برداً وسلاماً- وقالها أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام لما {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:١٧٣-١٧٤] .
قال الله: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء:٨١] ، ومع الكتابة فقد يؤاخذ بها في الدنيا، وقد تؤجل له العقوبة إلى الآخرة، قال الله تبارك وتعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل:٢٦] ماذا كانت عاقبتهم؟ - {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل:٢٦] ، فتخيل قوماً جالسين في بيت: يمكرون ويخططون ويدبرون ثم أتى الله البنيان من قواعده واجتثت الأعمدة من أصلها، {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:٢٦] ، وليس القواعد فقط، بل استؤصلت من الأصل والسقف خر عليهم {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:٢٦] أي: دخل عليهم العذاب من كل مكان ومن كل طريق، وكانوا لا يتوقعون ذلك.
{ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} [النحل:٢٧] يخزيهم يوم القيامة فوق هذا العذاب، فيكون الرجل يتآمر لحرب المسلمين، ويتآمر لتدمير الإسلام، ويخطط ويمكر ويسعى ويفعل ويفعل، ثم الله سبحانه وتعالى يأتي بنيانه ويجتثه من أساسه.
{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [النحل:٢٦] ، فإن كان جهدك جهد المقل، وحالك حال الضعيف، فلك ربٌ لا يغفل ولا ينام، وهو للظالمين بالمرصاد، قال الله تبارك وتعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النساء:٨١] .