[تفسير قوله تعالى: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة.]
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:١٧] هذه القصة والآيات التي تحملها تبين شيئاً، بينته كثير من آيات الكتاب العزيز، حاصله أن الشخص كما يثاب على عمله الصالح، فإنه يثاب أيضاً على نيته الصالحة، وكما يعاقب على عمله السيئ يعاقب أيضاً على نيته السيئة.
وبهذا تكون قد تفتحت أمام العبد أبواب من أبواب الخير، فمن لم يجد مالاً ينفقه في سبيل الله، ومن لم تسعفه صحته للصيام وللقيام فليصلح النية فإن النبي قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا مرض العبد أو سافر، كتب له من الأجر ما كان يعمل صحيحاً مقيماً) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شركوكم في الأجر حبسهم العذر) ولما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) نزلت هكذا، وابن أم مكتوم بجوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشكا ضرره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فنزل والرسول جالس {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:٩٥] فدعا الرسول زيد فأملى عليه {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} والأدلة في هذا الباب لا تكاد تحصى، فإذا خرج العبد يريد الجماعة فوجد الناس قد صلوا كتب له أجر الجماعة، فباب الخير مفتوح لمن لم يسعفه ماله للصدقة، ولمن لم يسعفه جهده للصدقة، ولمن لم يسعفه جهده للصيام ولا للقيام، فيكفيه أن يصلح نيته وينوي نية حسنة، وكذلك النيات الخبيثة.
قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم:١٧] أي: اختبرناهم، اختبرنا من؟ اختبرنا القرشيين، (كَمَا بَلَوْنَا) ، أي: كما اختبرنا (أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) ، فهذا الابتلاء كان بالسراء أو بالضراء؟ فيه الوجهان، فإن قيل: إنه اختبار بالسراء، فالله قد ابتلى أصحاب الجنة بجنة -بحديقة أو بستان- وهذه نعمة وابتلى القرشيين بنعمة مثلها، وهي بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فهذه نعمة.
وإن كان بالعقوبة، فكما أن أصحاب الجنة كفروا النعمة فحلت بهم العقوبة، فكذلك أهل مكة كفروا بالنعمة، وهي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلت أيضاً بهم النقمة، كما قال سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} [النحل:١١٢] وهي مكة بالإجماع، {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:١١٢] .
فسواء قلنا: إن الابتلاء كان بالسراء أو بالضراء فلكل وجه.
فإن قال قائل: هل في كتاب الله ما يشهد للقول بأن الابتلاء قد يكون بالسراء؟ فالإجابة: نعم؛ قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:٣٥] ولما رأى سليمان عليه السلام عرش ملكة سبأ مستقراً عنده {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:٤٠] .
فالابتلاء قد يكون بالسراء وقد يكون بالضراء.
قد يكون الابتلاء بالصحة والعافية وقد يكون الابتلاء بالمرض وبالسقم.
قد يكون الابتلاء بالجمال الزائد، وقد يكون الابتلاء بالدمامة الزائدة.
قد يكون الابتلاء بارتفاعك في المنصب وقد يكون الابتلاء بانخفاضك في المنصب، كل هذه ابتلاءات، إذ الحياة الدنيا كلها ابتلاءات، والله هو {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:٢] .
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:١٧] لم يرد شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت صحيح في تحديد من هم أصحاب الجنة، ولا ما هي بلادهم، ولكن الجنة بصفة عامة هي الحديقة والبستان الذي تكاثرت فيه الأشجار وتشابكت حتى جَنَّت من بداخلها، أي: حتى غطت على من بداخلها، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:٧٦] ومنه إطلاق الجِنّة على الجن لاستتارهم، ومنه إطلاق الجنون على المجنون لأنه جُنّ، أي: غطي على عقله.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:١٧] أسلفنا أنه لم يأت نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضح من هم هؤلاء القوم، ولكن العبرة حاصلةً على أية حال، ولو كان في تحديدهم وذكر أسمائهم وبلادهم نفع لذكروا في كتاب الله {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:٦٤] ، ولما أكثر المفسرون في تحديد هؤلاء الأشخاص، لم يكن إكثارهم من التوفيق بمكان إلا محبتهم للأثر الوارد عن السلف فقط، وإلا فالأولى أن تستبعد لكن محبة الآثار الواردة عن السلف حدت ببعض المفسرين أن يورد أقوالاً في هذه التحديدات هل هم بمصر؟ أو باليمن؟ أو بنجران؟ أو أماكن أخر؟ أقوال عدة، والأكثرون على أنها باليمن، والله أعلم.
فالتفاسير التي حشيت بمثل هذه الأقوال كتحديد اسم أصحاب الكهف وقبائلهم، واسم كلبهم، وتحديد مكان العزير وتسمية حمار العزير، وتحديد البلاد التي نزل بها ذو القرنين إلى غير ذلك من هذه التحديدات التي أطال فيها المفسرون، الأولى عدم ذكرها، لكنها فقط من باب محبة الأثر، وهي التي حدت ببعض المفسرين وحملتهم على ذلك.
قال جمهور المفسرين: هم قوم باليمن، كان أبوهم رجلاً صالحاً، وكان يعمل في أمواله في حياته بما يرضي الله، فيعطي المساكين حقوقهم، بل ويتصدق فوق الواجب أيضاً، فلما مات هذا الرجل الصالح، اجتمع بنوه وقالوا: قد كان أبونا يفعل ذلك والمال كثير، أما الآن فقد تقسم المال على الورثة، فقلت الأنصبة وأبناؤنا أحق من هؤلاء الفقراء، وبعضهم طعن في أبيه وفي تصرفاته الشعواء في ظنه، واتفقوا وبيتوا النية الخبيثة على عدم إعطاء الفقراء شيئاً من الحقوق، وأقسموا بالله، وتعاقدوا في فيما بينهم، وتعاهدوا على أن يجنوا ثمارهم في الصباح قبل أن يراهم الفقراء وقالوا فيما بينهم: قد مضى هذا العهد الذي كان الفقراء يتوافدون فيه علينا من كل مكان، وقد مات أبونا ولا حاجة لنا في هؤلاء الفقراء وأقسموا فيما بينهم وتعاقدوا على هذا.
{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:١٧] أي: ليقطعن ثمارها في الصباح الباكر، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:١٨] في تفسير قوله تعالى: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:١٨] قولان: أحدهما -وهو الذي عليه الجمهور-: (لا يَسْتَثْنُونَ) أي: لا يقولون إن شاء الله، فقالوا: نقسم بالله أن نجز الثمار صباحاً ولا نعطي الفقراء أي شيء، ولم يقولوا: إن شاء الله، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن سليمان: (أما إنه لو قال: (إن شاء الله) لم يحنث) وذلك لما قال سليمان: لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن ولداً يجاهد في سبيل الله، قيل له: قل: (إن شاء الله) فلم يقل، فما ولدت منهن إلا امرأة واحدة ولدت نصف إنسان، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما إنه إن قال: (إن شاء الله) لم يحنث، وكان أرجى لحاجته) ولذلك ذهب جمهور العلماء إلى أن من قال: أقسم بالله ألا أذهب إلى القاهرة، وأتبعها بكلمة (إن شاء الله) على التوالي ليس على التراخي؛ فذهب لم يحنث، ولا يكون عليه كفارة، فلذلك يكون مخرجاً للأم التي تهدد ولدها الذي لا يفهم، وتقول له -إن اضطرت إلى القسم-: أقسم بالله لأضربنك إن شاء الله، فإن قالت: (إن شاء الله) ارتفع عنها التكفير، ولأي شخص أن يتبع اليمين بقوله: (إن شاء الله) .
فالقول الأول قول الجمهور في تفسير: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي: لا يقولون: (إن شاء الله) .
والقول الثاني: أن المراد بقوله: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي: لا يقتطعون حق الفقراء ويجنبونه على جانب كما كان أبوهم يفعل.
{فَطَافَ عَلَيْهَا} [القلم:١٩] تآمروا هذه المؤامرة، واتفقوا هذا الاتفاق، وهذا درس يؤخذ منه عبرة لكل شخص ينوي شراً، فالموسع عليه إذا أراد عمل الخير فليحذر من تثبيط الشيطان، فهم فكروا هذا التفكير السيئ، وتعاقدوا هذا العقد الخبيث، ولا يدرون ما الذي يدبره الله لهم، {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:١٩] ما هو هذا الطائف؟ من العلماء من قال: هي آفة تسلطت على الأرض فأبادتها، ومنهم من قال: ريح صرصر شديدة أحرقت الأشجار جميعها.
والشاهد أن الأرض أبيدت ودمرت واحترقت {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} [القلم:١٩] العقوبة من الله، هو الذي يسخر السحب، وهو الذي يأتي بالبرد، وهو الذي يأتي بالحر، وهو الذي يسلط الآفات، الشاهد: أنه طائف ليس من أحد من البشر بل هو {طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:١٩] .
{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:٢٠] والصريم: هو الشيء الذي صرم، أي أصبحت كأنها قطعت وحصدت، ومنهم من قال: إن الصريم الأسود البهيم شديد السواد أي: أصبحت كالليل المظلم، فأصبحت كالصريم، هذا الذي فعله الله بهم وهم نائمون.
{فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ} [القلم:٢١] تأمل في الآية، وتخيل منظرهم أمام عينيك، كلٌ ذهب ينادي الآخر من بيته، (فتنادوا مصبحين) ، قم يا فلان! قم يا فلان! قبل أن يستيقظ الفقراء، الفقير الفلاني بجوارنا قم وامش رويداً رويداً حتى لا يسمع، فتنادوا مصبحين، {أَنِ اغْدُوا} [القلم:٢٢] أي: انطلقوا في الغداة {عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ} [القلم:٢٢] إن كنتم ستصرمونها بسرعة فقوموا،