للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)]

قال تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ} [البلد:١-٢] ما المراد بـ (أَنْتَ حِلٌّ) ؟ من العلماء من قال: إن (حِلٌّ) معناه: لست بآثم، كما تقول للشخص: أنت في حل من أمرك، أنت في حل من هذا الوعد، أنت لست بآثم إذا أخلفت هذا الوعد، وأنت لست بآثم إذا لم توف لي بهذا الأمر، فقوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) أي: وأنت في حل، وما المراد بهذا القول؟ المراد أن مكة بلد حرام، حرمها الله على لسان نبيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بل حرمها يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها -لا يجوز لك أن تطير الحمام من الحرم- ولا يعضد شوكها، ولا يلتقط لقطتها، ولا يحمل فيها سلاح، ولا يقتل فيها الناس، فالبلد بلد حرام محرم.

الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مكة حراماً عليه كما أنها حرام على الناس، فيحرم على الرسول أن يرتكب فيها شيئاً من المذكور، لكنها أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار يوم الفتح، يفعل فيها ما يشاء، ويقتل من يشاء، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مكة بلد حرام حرمها الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا ينفر صيده) إلى آخر الحديث: (وإنها ما أحلت لأحد قبلي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار -أثناء فتح مكة- ثم رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس إلى يوم القيامة) فأحلت مكة للرسول ساعة من النهار، قتل فيها بعض الناس، كما قال في شأن ابن خطل: (وإن وجدتموه متعلقاً بأستار الكعبة فاقتلوه) ، فقوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:٢] أي: وأنت في حل مما تصنع في الساعة التي أحللت لك فيها هذه البلدة عام الفتح، فهذا هو تأويل قوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) عند الجمهور، أي: جمهور المفسرين.

وقول آخر: (وَأَنْتَ حِلٌّ) أي: قد استحل أهل هذه البلدة دمك، وهناك أقوال أخر لا نوصي بذكرها، المهم أن قول الجمهور هو الأول الذي سمعتموه.

فعلى هذا اتضحت وجهة من قال: إن (لا) نافية لشيء آت، فلا أقسم بهذا البلد في الساعة التي أُحلت لك فيها هذه البلدة، إنما أقسم بهذه البلدة في سائر الأوقات، وهذه وجهة من قال: إن (لا) نفي لشيء آت.

وهنا اعتراض على هذا التأويل وحاصله: إن هذه السورة -سورة البلد- مكية، وإنما أحلت مكة لرسول الله عام الفتح، يعني: بعد نزول هذه السورة، فكيف يلتئم الجمع بين أن السورة مكية وبين قوله تعالى: (وَأَنْتَ حِلٌّ) وهو إنما كان عام الفتح؟ فأجيب بأن هذا أطلق باعتبار ما سيكون، كما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر:٣٠] ليس معنى (إنك ميت) ميت الآن إنما معنى {إِنَّكَ مَيِّتٌ} أي: ستموت، وكقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:١] ونحو ذلك.

{لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:١-٢] (حِلٌّ) يعني: حلال فاصنع ما تشاء.