للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة.]

ثم قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:٢٢] أي: ولا يحلف، فالإيلاء هو الحلف، قال الشاعر: قليل الألايا حافظٌ ليمينه -أي: قليل الأيمان حافظٌ ليمينه- وإن صدرت منه الألية ضرت أي: إن صدرت منه يمينٌ ضر بيمينه، وقال سبحانه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:٢٢٦] أي: للذين يحلفون ألا يقربوا نسائهم مدة طويلة، ليس لهم إلا أن يتربصوا أربعة أشهر {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٢٦-٢٢٧] .

ومعنى هذه الآية: أن الشخص إذا قال: أقسم بالله ألا أقرب زوجتي سنةً، نقول له: قف، ليس لك ذلك، إنما لك أربعة أشهر كحدٍ أقصى، فإن رجعت في خلال أربعة أشهر وجامعت أهلك فحيهلا، وإن لم تفعل توقف عند نهاية الأربعة أشهر وتجبر إما على الرجعة إلى زوجتك والجماع، وإما على الطلاق رغماً عنك، ومن أهل العلم من قال: يوقف المؤلي -يعني: الذي حلف- عند الأربعة الأشهر وإذا مرت الأربعة أشهرٍ ولم يرجع عدت طلقة عليه شاء أم أبى، هذان قولان لأهل العلم، ومحل بسطهما في كتب الفقه، فمادة (آلى) يعني: حلف، مثل حديث: (آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهراً) ، أي: حلف ألا يدخل على نسائه شهراً.

فقال تعالى: (وَلا يَأْتَلِ) أي: ولا يحلف {أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:٢٢] أي: أصحاب الفضل منكم يا مؤمنون! {وَالسَّعَةِ} [النور:٢٢] أي: أصحاب السعة، الذين وسع الله عليهم بالمال، والمعنى: لا يقسم الفضلاء ولا يقسم الأغنياء، لا يقسم أهل الغنى والفضل {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} [النور:٢٢] .

وهذه الآية الكريمة نزلت في الصديق أبي بكر، فقد كان أبو بكر ينفق على مسطح بن أثاثة، وكان مسطح قريباً لـ أبي بكر الصديق، وكان ممن شهد بدراً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع هذا طعن مسطح بلا علمٍ في أم المؤمنين عائشة، ووصفها بالزنا ظلماً وعدواناً.

فلما برأ الله أم المؤمنين عائشة، قال أبو بكر: والله! لا أنفق على مسطح بعد اليوم، وكان معه حق، فرجلٌ محسن يحسن إلى شخص فاللائق بالشخص على أقل تقدير أن يجازيه بجزاك الله خيراً، ولا يذهب يطعن في ابنته بالزنا بلا علم، فقال أبو بكر لما نزلت براءة عائشة وتبين كذب مسطح رضي الله عنه: والله! لا أنفق على مسطح بعد اليوم، فنزل قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:٢٢] أي: لا تقسموا يا أهل الفضل ويا أهل الصلاح ويا أهل الغنى أن تحرموا الفقراء والمساكين.

والمذنب إذا لم يعترف بذنبه، فلا وجه للعفو عنه؛ لأنك والحالة هذه تكون قد نصرته ظالماً، ونصرة الظالم لا تجوز، ولكن إذا اعترف بذنبه وأقر بخطئه، فباب التوبة مفتوح، وينبغي العفو عنه، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس) ، والله أعلم.

{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:٢٢] ، في الآية الكريمة ردٌ على الخوارج، فإن قيل ما وجهه؟ فوجهه أن الخوارج يكفرون بالكبيرة، ووجه الرد عليهم أن مسطحاً ارتكب كبيرة، وهي قذف أم المؤمنين عائشة، ولم يخرجه ذلك عن دائرة أهل الإيمان، فقد وصفه الله بقوله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:٢٢] ، وهذه كلها صفات لـ مسطح بن أثاثة، فلم يخرجه الله عن عباده المؤمنين بالقذف الذي قذفه لـ عائشة.

وهذا من إنصاف ديننا، فالشخص يحكم عليه بمجمل ما صدر منه، ولا يحكم عليه بزلة زلتها قدمه، إنما يحكم عليه بمجمل سيرته، فلا نأتي إلى مسطح ونطيح بكل حسناته وفضائله ومناقبه لكونه قذف، فليوضع القذف في كفة من الميزان، ولتوضع سائر الخيرات في الكفة الأخرى، ففي الكفة الأخرى هجرة مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وجهاد مع رسول الله يوم بدر، وليرجح إما جانب الخير أو جانب الشر، وبهذا يحكم على الناس، فالله سبحانه جعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمةً وسطاً.

وهذا القول ينسحب على عموم الصحابة، وعلى عموم الناس، فمثلاً: إذا جئنا نزن معاوية، نجد أن من إنصاف أهل السنة أنهم قالوا: معاوية قاتل علياً، فأخطأ في قتاله لـ علي رضي الله عنهما، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (تقتل عماراً الفئة الباغية) ، ولكن ينظر إلى مناقب معاوية الأخرى، فهو كاتب للوحي على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفتح الله على يديه جملة من بلاد الكفار، ودخل في خلافته ألوف مؤلفة من الكفار إلى الإسلام، فليوزن بمجمل أفعاله، لا بفعلة واحدة، فأهل الظلم والجور يزنون الشخص بعيب واحدٍ فيه، وبزلةٍ واحدة زلتها قدمه، فيظلمون الناس: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمه على شعثٍ أي الرجال المهذب؟ قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا} [النور:٢٢] أي: يعطوا {أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:٢٢] ، (والمساكين) هل المسكين أشد فقراً أم الفقير؟ يقول العلماء: إن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، والمعنى: إذا جاء ذكر المسكين والفقير في سياق واحد -كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:٦٠] ، فللفقر معنى وللمسكنة معنى آخر، والمسكين أعلى حالاً من الفقير، فالفقير لا يكاد يجد شيئاً، أما المسكين فيجد الشيء الذي لا يكفيه، قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:٧٩] فوصفوا بالمسكنة.

وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا جاء لفظ الفقير في سياق ليس فيه ذكر المسكين، دخل في هذا اللفظ المسكين، وكذلك إذا جاء لفظ المسكين في سياق ليس فيه ذكر الفقير، دخل فيه الفقير، كهذه الآية: {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} [النور:٢٢] ، فدخل في المساكين هنا الفقراء، وهذا معنى قولهم: إذا افترقا -أي: في السياق- اجتمعا أي: في المعنى.

والمسكين: من أسكنته الحاجة، ومن أسكنه الفقر.

قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:٢٢] أي: وليعفوا الأغنياء وأهل الفضل، وليصفحوا.

فجدير بمن آتاه الله جاهاً أو مالاً أن يتغاضى عن هفوات الفقراء والضعفاء، ولا يعدد عليه أخطاءهم حتى لا تعد عليه نعم الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أسماء: (تصدقي ولا توعي فيوعي الله عليك، ولا تحصي فيحصي الله عليك) .

(وَلْيَعْفُوا) أي: ليطمسوا على أخطاء هؤلاء، (وَلْيَصْفَحُوا) أي: يعرضوا عنها، {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:٢٢] أي: إذا أحببتم أن يغفر الله لكم فاغفروا للناس، فالجزاء من جنس العمل، إذا أحببت أن يغفر لك الله فاغفر لعباد الله، إن أحببت أن يستر الله عليك فاستر على الناس، وهكذا، فالجزاء من جنس العمل.

وفي هذه الآية منقبة كبرى للصديق رضي الله عنه، لأنه أقسم أن لا ينفق على مسطح، فلما نزلت هذه الآية: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:٢٢] ، قال: والله يا ربي! إني أحب أن تغفر لي، ولن أمنع عن مسطح الصدقة بعد اليوم، وهو الذي طعن في ابنته، وهو الذي اتهم ابنته بالزنا، ومع ذلك يقسم بالله ألا يمنع عنه النفقة بعد نزول قوله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:٢٢] .

وهذا امتثال شديد من أبي بكر لكتاب الله ولأوامر الله، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا مولعين بشرب الخمر، فلما نزلت الآية بتحريم شربها قاموا إلى الدنان فكسروها، وهي ممتلئة خمراً، مع حبهم الشديد لها، وكانوا يلبسون خواتيم الذهب، فلما رءوا أن النبي صلى الله عليه وسلم نزع خاتم الذهب، نزعوا خواتيمهم، وكانوا يصلون بالنعال مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنزع النبي نعله فنزعوا نعالهم، ثم بين لهم أنه إنما نزعها لعلة، وهي أن فيها أذى كما أخبره جبريل عليه السلام، فكان الصحابة شديدي الامتثال لرسول الله عليه الصلاة والسلام، أحدهم كان مع زوجته يجامعها فسمع داعي الجهاد: حي على الجهاد! فقام عن الزوجة مسرعاً لا يتمهل، حتى أنه لم يغتسل، بل أسرع وقاتل حتى قتل رضي الله عنه، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، رضي الله تعالى عنهم، وأسكنهم فسيح الجنان، وقاتل الله أهل التشيع البغيض الذين ينالون منهم.

قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:٢٢] أي: امتثلوا واعملوا بهذه الصفة، صفة الغفران والرحمة للناس.