[من فوائد حديث الإفك]
ومن الفوائد التي تؤخذ من هذا الحديث: أنه يجب على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه المؤمنين، لقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:١٢] .
ويؤخذ من الحادثة: الإنصاف، إنصاف عائشة رضي الله عنه مع من هجاها ورماها، فمع أن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد رماها بالفاحشة، لكن لم يمنعها هذا من أن تُقر له بالفضل الذي له، إذ قد نافح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدافع عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويقول لمن هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتهجوه ولست له بكفءٍ فشركما لخيركما الفداء فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء فـ عائشة رضي الله عنه لم تنس له هذه المنقبة، وهذا من شدة إنصافها رضي الله عنها.
كذلك أم المؤمنين زينب بنت جحش لم تحملها الغيرة -وهي ضرّة لـ عائشة - على أن تتكلم في عائشة بغير الحق الذي تعلمه، فقالت: أحمي سمعي وبصري يا رسول الله! أهلك وما علمت فيها إلا خيراً! ويؤخذ من الحادثة أيضاً بعض الأحكام الفقهية التي سيقت في حديث الإفك، كالتأدب مع النساء، والسير أمام النساء، وترك السير خلفهن، فإن صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه لما وجد عائشة استرجع وأناخ الناقة ثم ركبت عائشة، وسحب الناقة ومشى أمامها، ولم يمش خلفها رضي الله تعالى عنه.
فيؤخذ من هذا التأدب في المسير مع النساء، وفي الحديث مع النساء، ونحو ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في حديث الفتون الطويل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع ابنة الشيخ الصالح التي جاءت تدعوه قائلةً: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:٢٥] ، ففي الأثر أن موسى عليه الصلاة والسلام مشى أمامها، ومشت خلفه رضي الله تعالى عنها، فيؤخذ من هذا التأدب في الحديث وفي المسير مع النساء، ولا يكثر الشخص من الكلام معهن إلا عند الحاجة إلى الكلام، فإن عائشة قالت: والله! ما سمعت من صفوان كلمةً غير استرجاعه، أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهي الكلمة الوحيدة التي سمعتها أم المؤمنين عائشة من صفوان بن المعطل السلمي.
فيؤخذ منه التأدب في الحديث مع النساء وعدم الإكثار من الكلام معهن، إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك؛ وذلك لأنه قد يصدر من المرأة كلمة يفتن بها الرجل، أو يسوّل لها الشيطان فتخضع بالقول فيطمع فيها الذي في قلبه مرض، كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:٣٢] ، وهذا من باب سد الذرائع الموصلة إلى الفساد، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء) .
ويؤخذ من حديث الإفك: مشروعية سفر النساء مع أزواجهن، ولذلك مباحث واسعة.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ} [النور:١٩] أي: تنتشر، {الْفَاحِشَةُ} [النور:١٩] أي: الكبيرة، والفاحشة تطلق على الزنا، وتطلق على كل ما يفحش من الأقوال والأفعال، لكن في أكثر المواطن يراد بها الزنا، فمثلاً قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:٣٣] ، الفواحش هنا أعم من الزنا.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:١٩] هذه الآية فيها دليلٌ على أن من أعمال القلوب ما يؤاخذ عليه العبد، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك، فللقلوب أعمال لا يؤاخذ عليها العبد، وهي الخطرات والوساوس التي تخطر على القلب وتمر به، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل) .
لكن الأمور التي يجتمع عليها القلب، ويعقد العزم على فعلها، يحاسب عليها العبد، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:٢٢٥] ، فلما عقد القلب العزم على فعلها أصبحت كسباً له فيؤاخذ عليها العبد، ولذلك يؤاخذ العبد ويحاسب على الحسد، وهو من أعمال القلب، ويحاسب العبد على حب شيوع الفاحشة في الذين آمنوا، وهذا الحب من أعمال القلب.
ويثاب العبد على حب الرسول صلى الله عليه وسلم، والحب من أعمال القلب، ويثاب العبد على حب المؤمنين، وهو من أعمال القلب، ويثاب العبد على تمنيه فعل الخير كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا شاركوكم في الأجر حبسهم العذر) ، فكُتِبَ لهم أجر لحبهم الخروج مع رسول الله والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:٩١-٩٢] الآيات.