للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ.)

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:١٨] قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي: يا من آمنتم بالله وصدقتم المرسلين، (اتَّقُوا اللَّهَ) أي: اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، والوقاية تكون بكل أعمال البر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) ، وقد تلا النبي هذه الآية مع آية النساء الأولى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:١] في قصة، وقد تنزل الآية من عند الله سبحانه وتعالى في عدة وقائع، وقد تنزل عدة آيات في واقعة واحدة.

جاء وفد من غطفان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أثر الفقر والفاقة مجتابي النمار، أي: يلبسون جلود النمور من الفقر والفاقة، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى ما بهم من فاقة، ورأى الفقر الشديد يعلوهم، ورأى حالة المسكنة والانكسار تخيم عليهم، فخرج على أصحابه فتلا هاتين الآيتين: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١] وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ، فعمَد رجلٌ إلى صدقة فتصدق بها، فتبعه الناس على ذلك، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وأشرق وأضاء، ثم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) .

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي: ليوم القيامة، وعُبِّر عنه بالغد لقرب وقوعه، كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل:٧٧] .

وقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) تأكيد على الأمر بتقوى الله، وآيات الكتاب العزيز متعددة وفي غاية الكثرة تأمر بتقوى الله، فهي وصية ربنا لنا، ووصية الأنبياء لأممهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:١٣١] .

وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) هذا الختام يعظم مراقبة العبد لربه، وينبغي أن يكون العبد على هذه الحال من المراقبة، وهي مرتبة الإحسان التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، وكما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:٢١٧-٢١٩] ، أي: ويرى تقلبك مع الساجدين، فجدير بالعبد أن يعبد الله سبحانه وتعالى على هذه الصفة كأنه يرى ربه، فإن لم يكن يرى ربه فإن ربه سبحانه وتعالى يراه، وكما قال تعالى: {يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:١٩] .