[بعض أحكام المساجد]
وما معنى: {تُرْفَعَ} ؟ أحد الأقوال في تأويلها أن (ترفع) معناها: تعظم وتمجد وتشرف، من قولهم: رفع الله قدرك، أي: شرفك الله، ورفع لك قدرك، يعني: أمر الله سبحانه بأن ترفع هذه المساجد وتعظم، وتوقر، وتحترم، فلا يكون فيها لفظ بذيء، ولا يكون فيها إثم ولا فسوق، ولا يكون فيها تخطيط للبطش بالمؤمنين والمؤمنات، هذا المعنى الأول لقوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:٣٦] .
وقد جاءت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم تؤيد هذا المعنى، فأمر عليه الصلاة والسلام بتنظيف المساجد، وكانت امرأة على عهده عليه الصلاة والسلام تقم المسجد، وأمر بتطييب المساجد، وبتبخير المساجد، ونهى عليه الصلاة والسلام عن البزاق في المساجد، ونهى مَنْ أكل ثوماً أو بصلاً أن يأتي إلى المسجد حتى لا تتأذى منه الملائكة، جملة أمور شرعها النبي صلى الله عليه وسلم لصيانة هذه المساجد، فهذا الوجه الأول لقوله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:٣٦] .
التأويل الثاني: أن معنى: {تُرْفَعَ} : تبنى وترفع جدرانها، الشاهد عليه من التنزيل: قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:١٢٧] ، فيرفع إبراهيم القواعد من البيت أي: يبني البيت، فعلى هذا الوجه الثاني المراد: البنيان، وقد جاءت فيه جملة نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث المتواتر: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) ، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:١٨] الآيات، على التأويلين: العمارة بالبناء، والعمارة بالعبادة والذكر وتلاوة القرآن.
ترد بعض المباحث عند هذه الآية من ناحية التشييد الزائد للمساجد، ومن ناحية زخرفة المساجد، وعمل المآذن للمساجد، فمن ناحية زخرفة المساجد جاء في الخبر: (لتزخرفنها كما زخرفتها بنو إسرائيل) ، وجاء أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في شأن مسجده: (عريش كعريش موسى صلى الله عليه وسلم) ، وقال عمر رضي الله عنه: إياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- لما جيء إليه بخميصة لها أعلام يصلي عليها قال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي، وأتوني بأنبجانية أبي جهم بن حذيفة بن غانم) .
فالزخارف في المساجد كرهها كثير جداً من العلماء، ومن العلماء من أشار إلى نوع من الترخيص في ذلك، محتجاً بما فعله بعض أمراء بني أمية، كـ عبد الملك بن مروان لما بنى مسجد دمشق، ونقل عن عمر بن عبد العزيز أنه أدخل زخارف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والأخبار تحتاج إلى تمحيص عن هؤلاء الأمراء، لكن الوارد مرفوعاً وكذا عن أمير المؤمنين عمر النهي عن الزخارف، وخير الهدي وأكمل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الله سبحانه وتعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:٣٦] كلمة: أذن، تأتي في الكتاب العزيز وفي السنة بعدة معانٍ، تأتي بمعنى: الإذن أي: السماح، أذنت لك أي: سمحت لك، وأذن بمعنى: أمر، {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:٣٦] أي: أمر الله أن ترفع، وأذن تأتي بمعنى استمع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به) يعني: أن الله سبحانه وتعالى ما استمع إلى شيء كما استمع إلى نبي حسن الصوت بالقرآن يقرأ قرآناً ويتغنى به، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، لكن هنا بمعنى: أمر.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:٣٦] يعني: هذه القلوب وأصحابها تواجدهم كما سمعتم في بيوت، ليسوا في مقاهٍ، ليسوا على النادي الذي يجمع شرار الخلق ويجمع سقط الناس، وليسوا على المقاهي التي تجمع الخمارين والحشاشين واللصوص، إنما تواجدهم في بيوت {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:٣٦] فالمساجد بنيت لذكر الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بنيت المساجد لذكر الله وإقام الصلاة وتلاوة القرآن) ، هذا الأصل الذي بنيت له المساجد، لم تبن المساجد كي يباع فيها أو يشترى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من وجدتموه يبيع أو يشتري في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك) .
ومعذرة إن كنا نعيد على الأسماع هذه الأحاديث المعروفة؛ لأننا نفاجأ بين الحين والآخر أن من إخواننا من يجهل البدهيات، وهاهو بالأمس القريب أحد إخواننا تزوج، وخرج يصلي في جماعة، فجاءه أحد الإخوة الذين يحضرون معنا الدروس أحياناً وقال له: لماذا تصلي في جماعة؟ معك رخصة أن تجلس أسبوعاً تصلي في بيتك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (كان إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً) ! من الذي أفادك أن معنى حديث: (أقام عندها) أي: لا يخرج أبداً من البيت، ولا يخرج إلى الصلاة؟! الحديث معناه: إذا تزوج البكر على الثيب فيقسم للبكر سبعاً، ويقسم للثيب ثلاثاً عليه الصلاة والسلام، فما أدراك؟! فالشاهد: أننا نعيد على الأسماع بعض الأحاديث -وإن كانت معلومة- حتى ينتفع بها المؤمنون، والذكرى تنفع المؤمنين.