[تفسير قوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون)]
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:١٧] ، وصف الولدان بأنهم مخلدون لبيان أن الهرم والشيب لا يتسرب إليهم كأهل الدنيا، فأهل الدنيا قال الله في شأنهم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:٥٤] ، فترى الولد من أهل الدنيا وسيماً، ثم ما هي إلا سنون تمر عليه حتى يبدأ في الضعف والانهيار، ثم بعد ذلك في الانحناء كما قال الشاعر: يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا ما رام القيام ويحمل أما غلمان الجنة وخدمها الذين يطوفون على أهلها فهم مخلدون في سن واحدة، لا يكبرون ولا يشبون ولا يهرمون.
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:١٧-١٨] ، الأكواب هي التي لا عرى لها، أي: لا أيدي لها، والأباريق هي التي لها الأيدي {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:١٨] قال بعض أهل العلم: هي الخمر الصافية، ومن العلماء من قال: إن الكأس لا يطلق عليها كأس إلا إذا كانت مليئة بالشراب، أما إذا كانت فارغة فلا يطلق عليها كأس، {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} [الواقعة:١٨-١٩] أي: لا يصابون بالصداع من جراء تناولها، {وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:١٩] أي: ولا تذهب بعقولهم كما تفعل خمر الدنيا.
{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:٢٠] قال بعض أهل العلم: يستدل بذلك على أن الشخص له أن يتخير من أنواع الفاكهة التي تقدم له في الدنيا، فإن الله أجاز ذلك في الآخرة، ولعل المعنى يتضح بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) فقول صلوات الله وسلامه عليه: (وكل مما يليك) له فقه بلا شك، أي: إذا لم تتعدد الأصناف فلا تأكل إلا مما يليك، وأما إذا تعددت الأصناف فلك أن تمد يدك إلى صنف بعيد، وقد ورد بذلك حديث فيه ضعف، وآخر ثابت صحيح: أما الذي فيه ضعف وكلام فهو حديث: (أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له: عكراش، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثريداً، فكان يمد يده من بعيد، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عكراش! كل مما يليك فإنه طعام واحد، ثم أتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برطب وبتمر، فقال له: يا عكراش! كل حيث شئت، فقد تعددت الأصناف) ، لكنه حديث فيه ضعف.
أما الثابت الصحيح فهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمت إليه قصعة طعام وفيه الدباء، فكان يتتبع الدباء من أطراف القصعة صلى الله عليه وسلم) ؛ فعلى ذلك إذا كان على المائدة عدة أصناف، وصنف منها مرغوب لديك، وهو ليس أمامك، فلك أن تمد يديك إلى البعيد، وتأتي بالصنف الذي تشتهيه، أما إذا تساوت الأطعمة وكان الطعام واحداً فكل مما يليك كما أدبنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكذلك إذا قدمت إليك أنواع من الفواكه، وكان هناك صنف منها بعيد عنك، فلك أن تتخير منها ما شئت كما قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:٢٠] .
وقوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:٢١] ، فيه أن الطير جائز، ومرغوب فيه في الدنيا وفي الآخرة، وقد تقذر رجل من أكل الدجاج، ولكن رد عليه هذا الاستقذار أبو موسى رضي الله تعالى عنه، وكان يأكل دجاجاً رضي الله تعالى عنه، أما الجلالة فلها أحكامها، وقد تقدم شيء من أحكامها.
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:٢١] تقدم أن بعض أهل العلم يقول: قدم ذكر الفاكهة على اللحم، فيؤخذ أن صاحب البيت يقدم الفاكهة قبل تقديم الطعام؛ لأن الله قدمها في الذكر بقوله: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:٢٠-٢١] ، وهذا من الناحية الشرعية فيه نظر، فإن الواو لا تقتضي الترتيب في كل الأحوال؛ بل قد تقتضي مطلق التشريك، كأن تقول: جاء زيد وعمرو، ولا تعني أن زيداً جاء أولاً ثم تبعه عمرو، فقد تعني أنهما أتيا معاً، فكذلك قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:٢٠-٢١] لا يقتضي أن الفاكهة تقدم أولاً، ثم على إثرها لحم الطير، إلا أن بعض المشتغلين بالطب يقرر أن استفادة الجسم من الفاكهة قبل الطعام أسرع من استفادته منها إذا قدمت بعد الطعام، فالله سبحانه وتعالى أعلم بذلك، والأمر مباح ما دمت تقصد إكرام الضيف، إلا إذا قصدت بخلاً كما يفعل البعض، إذ يملئون الأجواف بالماء والتمر حتى إذا أتى الطعام تقلل الضيوف من أكلهم، فلك نيتك، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:٣٨] والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) .
وقوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:٢٢-٢٣] تقدم الكلام على ذلك، وذكرنا أن المكنون هو: المحفوظ الذي لم تمسه الأيدي.
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:٢٤] .
أفادت الآية الكريمة أن هذا النعيم المذكور جزاءً بما كانوا يعملون، فكيف يجمع بين هذه الآية الكريمة وبين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ؟ جمع بعض أهل العلم بين هذا الحديث الأخير وبين تلك الآية بأوجه من الجمع منها: أن دخول الجنة أولاً يكون برحمة الله سبحانه وبفضل الله سبحانه، ثم الترقي في الدرجات يكون بناءً على الأعمال كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:٧٢] .