والذي يرجح أن النبأ العظيم هو البعث بعد الموت أن أدلة البعث الأربعة ذكرت في هذه السورة؛ لأن أدلة البعث التي يستدل بها الله في كتابه على البعث تدور على أربعة أشياء، وتتكرر في سور القرآن بأساليب متنوعة، ويصرفها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بسياقات متعددة، وبراهين البعث الأربعة وأدلة البعث الأربعة تدور على الآتي: الدليل الأول من أدلة البعث: خلق السماوات والأرض، فيستدل بخلق السماوات والأرض على البعث، ووجه هذا الاستدلال: أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، كما قال تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}[غافر:٥٧] ، فالذي خلق الأكبر قادر على خلق الأصغر، إذا كان الله خلق السماوات والأرض فهو قادر على أن يخلق من هو أدنى وأقل من السماوات والأرض، قال تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[غافر:٥٧] .
وهذا الدليل يتصرف بعدة أساليب، والمعنى ثابت، فيأتي هذا المعنى في سياقات متنوعة ومتعددة، في خلال قصص، وفي خلال آيات التذكير، وكله ينصب على هذا المعنى: السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فالذي خلقها قادر على أن يخلق الناس، والأدلة على هذا في كتاب الله متعددة: كقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}[يس:٧٨-٧٩] ، إلى قوله:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}[يس:٨١] ، وكذلك في مطلع سورة (ق) قال الله حاكياً عن المشركين: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}[ق:٣] ، يقول تعالى:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[ق:٤-٧] ، فلما أنكروا البعث -كما في سورة ق- استدل على البعث بخلق السماوات والأرض قال تعالى حاكياً مقالتهم:{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}[ق:٣] ، فيقول تعالى:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ}[ق:٤-٧] الآيات.
ونحو هذا في سورة الغاشية:{وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}[الغاشية:١٨-٢٠] ، فكلها آيات تدور على هذا الشيء، فهذا أول استدلال على البعث ألا وهو الاستدلال بخلق السماوات وخلق الأرض.
والدليل الثاني على البعث: يكون بالاستدلال على إحياء بعض الأنفس بعد موتها، كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيما حكى الله عنه:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة:٢٦٠] ، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}[البقرة:٢٤٣] ، وقال تعالى:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[البقرة:٧٣] ، وقال تعالى:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}[البقرة:٢٥٩] .
وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، وفي سورة عمَّ شيء مشابه لهذا، ألا وهو:{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}[النبأ:٩] ، فالنوم موت كما قال الله:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}[الزمر:٤٢] ، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول:(الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) فهذا وجه الدليل الثاني على البعث.
الدليل الثالث على البعث هو: إحياء الأرض بعد موتها، ويذكره الله في كتابه بعدة أساليب، كقوله:{وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الحج:٥-٦] ، فالذي أحيا الأرض بعد موتها سيحيي الموتى أيضاً، فهذا الاستدلال الثالث على البعث وهو: إحياء الأرض بعد موتها.
الدليل الرابع على البعث: الخلق الأول، وهو الاستدلال على البعث بأن الذي خلقك أول مرة قادر على أن يعيد خلقك، فالذي صنع شيئاً أول مرة قادر على إعادة صنع هذا الشيء مرة أخرى، كما قال تعالى:{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ}[ق:١٥] ، أي: أفأتعبنا وأرهقنا الخلق الأول حتى يتشككوا في البعث؟! فهذه أربعة أدلة على البعث ومضامينها مذكورة في سورة عمَّ، وهذا هو الذي رجح أن المراد بالنبأ العظيم البعث بعد الموت، وسيأتي الكلام عليها واحداً واحداً إن شاء الله.