يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[النساء:٢٦] .
قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} فيه إثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى خلافاً لمن نفاها من أهل البدع، وإثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى وارد في جملة من الآيات:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:١٨٥] ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}[النساء:٢٨] إلى غير ذلك.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: يبين لكم شرائعكم وما أحل لكم وما حرم عليكم.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ} أي: طرق {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: الطرق الحميدة التي سلكها الذين من قبلكم.
وهل المراد بذلك الشرائع، أي: شرائع المتقدمين الذين سبقونا، أو المراد غير ذلك؟ قال ذلك فريق من العلماء، لكن على تحفظ في شيء وهو المنسوخ من شرائع المتقدمين، فشرائع المتقدمين هل تلزمنا، أو لا تلزمنا؟ لأهل العلم أقوال في ذلك: منهم من يقول: إنها تلزمنا إلا إذا جاء في شرعنا ما ينسخها.
يعني: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت من شرعنا ما ينسخه، واستدلوا لذلك بهذه الآية، وبقوله تعالى في سورة الأنعام:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}[الأنعام:٨٤-٨٦] إلى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ}[الأنعام:٩٠] .
ولما جاء عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند قوله تعالى:{وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}[ص:٢٤] قال: داود ممن أُمر نبيكم عليه الصلاة والسلام بالاقتداء به، أي: أن داود عليه السلام خر راكعاً وأناب أي: ساجداً، فكذلك سجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمرنا بالاقتداء بداود عليه الصلاة والسلام.
فمن أهل العلم من قال: إن شرائع المتقدمين من الأنبياء تلزمنا إلا إذا جاء من شرعنا ما ينسخها.
ومنهم من قال: إن لكل نبي شرعته، ودل على ذلك قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[المائدة:٤٨] أي: سبيلاً وسنة.
والقول الأول قوي، والجمع بينه وبين الاستدلال الأخير ممكن، والله أعلم.