للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قوله تعالى: (منفكين)]

وقوله: ((مُنفَكِّينَ)) فيها ثلاثة أقوال تدور على شيء مربوط بشيء وفك منه، فلم يكونوا منفكين، أي: لم يزالوا مربوطين إلى أن تأتيهم البيّنة.

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} عما ربطوا به إلا إذا جاءتهم البيّنة، وما هو الشيء الذي ربطوا به؟ فكلمة (منفكين) من الفك، فكأنهم مربوطون ولم يفكوا حتى تأتيهم البيّنة.

(منفكين) : من الانفكاك، وتأتي بمعنى: منتهين وتاركين، وبمعنى: متركوين وسيأتي تأويل ذلك.

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} ، أي: عن الكفر الذي هم فيه -على قول- {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:١] والبينة هي: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة:٢] ، أي: أن أهل الكتاب لن ينفكوا عما هم فيه إلا إذا جاءهم رسول من الله يتلو عليهم آيات الله، فحينئذٍ ينفكون عن الذي كانوا فيه من الشرك، والشيء الذي كانوا مربوطين به هو الكفر أو الشرك، هذا قول.

القول الثاني: أن الشيء الذي ربطوا فيه وتمسكوا به هو صفة محمد عليه الصلاة والسلام، فهم كانوا متمسكين بصفة محمد، وكانوا يقولون: سيأتي نبي صفته كذا، وكذا وعليه خاتم للنبوة، يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، ليس بفظ، ولا بغليظ، ولا بصخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء للناس، حتى يقولوا: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، فتفتح بها أعين عمي، وأذان صم، وقلوب غلف، كل هذه صفات رسول الله مثبتة في التوراة والإنجيل، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:٢٩] الآية.

فكانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة عند هؤلاء الكفار، وكانوا متمسكين بها غاية التمسك، ولم يكونوا أبداً يفرطوا فيها، بل كانوا يعرفون رسول الله تمام المعرفة، ولم ينفكوا عن هذه الصفات أبداً؛ بل كانوا يحفظونها تمام الحفظ، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف:١٥٧] ، فكانوا يعرفون الرسول تمام المعرفة، ومتمسكين بصفته غاية التمسك، ويحفظونها، فلم يتركوا صفة الرسول ولم يتخلوا عنها إلا بعد أن جاءهم رسول الله، ولمَ تركوها؟ قالوا: لست أنت هو.

حسداً من عند أنفسهم؛ فكانوا يستفتحون على الذين كفروا، ويقولون: سيخرج نبيٌ صفته كذا وكذا، فنتبعه ونقتلكم نحن وهو قتل عادٍ وإرم، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:٨٩] ، ولما جاء الرسول من نسل إسماعيل صلى الله عليه وسلم -وكانوا يريدونه من نسل إسحاق- كفروا برسول الله، وانفكوا عن صفة رسول الله، وقالوا: ما هذه الصفة؟ وتحللوا من هذه الصفة.

فعلى ذلك: الانفكاك يكون عن أحد الشيئين، الأول: انفكاك عن الكفر، فلم يكونوا منتهين عما هم فيه من الكفر إلا إذا جاءهم رسول يوضح لهم الحق، فمنهم من يتركه، ومنهم من يتمسك به.

والثاني: لم يكونوا منفكين عن صفة رسول الله إلا بعد أن جاءهم رسول الله، فتركوا صفة رسول الله حسداً من عند أنفسهم، كما قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء:٥٤-٥٥] ، أي: لم يكونوا متروكين هملاً وسدى؛ بل لابد من مجيء رسول إليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قضى أن تأتيهم الرسل.