تفسير قوله تعالى: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا.)
قال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:١٧] أصل القرض: القطع والجز، فكما يقال مثلاً: فلان قرض شيئاً، أي: قطع شيئاً، ويقال في التعبير اللغوي: الفأر قرض كذا، أي: قطع منه شيئاً.
فالقرض هو القطع، فمعنى: (إن تقرضوا الله) إن تقتطعوا من أموالكم شيئاً وتقرضونه لله، وهذا مقيد بالقرض الحسن، فلا تقرضوا قرضاً من الربا أو السرقة.
قال: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [التغابن:١٧] ، فلماذا قال: (تقرضوا) ، والله سبحانه وتعالى صاحب الفضل وإنما جعلنا مستخلفين في هذا المال، وهو الذي يعطي ويهب؟ قال فريق من أهل العلم: إن القرض أطلق هنا؛ لأن الله وعد برده مضاعفاً وبالإثابة عليه، فلذلك جرت الصدقة مجرى القرض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الشاهد: أن القرض قيد بأنه قرض حسن، وفي الحديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) .
قال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن:١٧] ، كم حد هذا التضعيف؟ بعض العلماء حاول أن يقيد التضعيف بسبعمائة ضعف، وقال: هذا أكثر ما ورد صريحاً في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن غيره من العلماء أطلق وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تصدق أحدكم بصدقة من كسب طيب كعدل التمرة، فإن الله يتقبلها ويربيها له حتى تأتي يوم القيامة كالجبل العظيم) والجبل بالنسبة للتمرة أكثر من مئات الألوف بل الملايين من الأحجام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال تعالى: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:١٧] أي: شاكر لأفعالكم التي تصنعونها ابتغاء وجهه، شاكر لنفقاتكم التي تنفقونها ابتغاء وجهه سبحانه وتعالى.
{وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:١٧] ، لا يعاجل بالعقوبة، فإذا أخطأت لم يعاجلك ربك سبحانه وتعالى بالعقوبة، وقد ورد في هذا الباب حديث، وللعلماء في تحسينه وتضعيفه قولان، ألا وهو: (إن ملك السيئات يرفع يده عن كتابة السيئة ست ساعات، فإن فاء المذنب وإلا كتبها) ، فبعض أهل العلم يورد هذا الحديث عند تفسير صفة الله سبحانه وتعالى الحليم، ولا يتعارض هذا مع قول الله سبحانه وتعالى -كما في الحديث القدسي- لملائكته: (إذا هم العبد بسيئة فارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له سيئة) فقوله: (فاكتبوها له) : لا تفيد الكتابة المباشرة؛ فتحمل على الكتابة بعد هذا الوقت المحدد، جمعاً بين الدليلين، والله تعالى أعلم.
وقوله: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:١٧] فيه إثبات صفة الحلم التي هي عدم المعاجلة بالعقوبة، وهي من الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها العباد، فلله صفات ينبغي أن يتحلى بها العباد، وصفات لا يشاركه فيها غيره: (العز إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما قذفته ناري) .
أما صفة الحلم فيحبها الله سبحانه وتعالى في عباده، فثم صفات لله يحبها في عباده: (إن الله جميل يحب الجمال) ، الله كريم يحب الكرماء، الله رحيم يحب الرحماء، الله حليم يحب الحلماء من عباده.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله، قال: وما هما يا رسول الله؟ قال: الحلم والأناة) ، وهذا ثابت في صحيح مسلم وفي غير مسلم بعض الزيادات: (أنا جبلت عليهما يا رسول الله أم تخلقت بهما؟ قال: بل جبلت عليهما) ، فالشاهد: أن صفة الحلم صفة يحبها الله سبحانه وتعالى في عباده، فلا تتعجل بإنزال العقوبات، بل تأنَّ وتريث، فالتؤدة في كل شيء خير، والله أعلم.
قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [التغابن:١٨] .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.