[تفسير آية الكلالة]
قال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ} [النساء:١٧٦] أي: يطلبون منك الفتيا، وحذف المستفتى عنه، وهو الشيء المسئول عنه، فالمضمر: يستفتونك في الكلالة.
{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:١٧٦] ، ففهم من الإجابة ماهو المضمر الذي سُئل عنه.
وقد تقدم في أول السورة قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:١٢] .
وهنا قال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:١٧٦] .
فقد يقول قائل: كيف يقول في الآية المتقدمة: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:١٢] ، وهنا يقول سبحانه: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ} [النساء:١٧٦] ، فهذه كلالة وهذه كلالة، فما الفرق؟
و
الجواب
أن الكلالة المذكورة في أوائل سورة النساء إنما هي الأخت لأم أو الأخ لأم، أما الكلالة هنا فالإخوة الأشقاء، فالإخوة الأشقاء يخصهم الحكم الوارد في الآية الأخيرة من سورة النساء (آية الصيف) .
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:١٧٦] ، والكلالة جاء جزء من تفسيرها في الآية ألا وهو: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:١٧٦] هلك: بمعنى مات، (ليس له ولد) الجمهور يقولون: ليس له ولد ولا والد، الآية الكريمة ذكرت الوالد يموت وليس له ولد، لكن الجماهير على أن يضاف: (ولا والد) .
الولد ذكر نصاً: (ليس له ولد) في الآية السابقة، والوالد يفهم بإمعان النظر في الآية؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:١٧٦] ، فإذا كان للميت والد فإن الأخت لا تأخذ النصف ولا ترث شيئاً، فترجح قول الجمهور للقرينة المذكورة في الآية، ألا وهي قوله: {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:١٧٦] .
فأصل الكلالة هنا: امرأة ماتت أو رجل مات ليس له والد ولا ولد، لا من أعلى ولا من أسفل، ولا جد ولا حفيد.
وهذه الآية هي آخر آية نزلت على رأي البراء بن عازب، قال البراء بن عازب كما في الصحيحين: (آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)) [النساء:١٧٦] ) .
ومن العلماء من قال: إن آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:٢٨١] .
أما آخر سورة نزلت فهي: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١] .
وثمّ قول آخر: أن آخر آية نزلت: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:٣] إن قيل: كيف نجمع بين هذه الأقوال؟ فالإجابة: أن كل صحابي أفتى بالذي علمه، فأفتى البراء على الذي بلغه وعلمه أن آخر آية نزلت هي آية الكلالة.
وذهب غيره إلى أنها آيات الربا التي في ختامها: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:٢٨١] .
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء:١٧٦] أي: مات، وكلمة (هلك) بمعنى مات قد تطلق أيضاً على المسلم، قال جابر لرسول الله: (إن أبي هلك يا رسول الله وترك تسع أخوات لي) ، لأن البعض يظن أن هذه خاصة بالكفار، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:٣٤] فهلك تطلق على من مات سواء كان مسلماً أم كافراً، وتطلق على الضياع، (هلكت قلادة لأسماء) أي: ضاعت وفقدت.
قال تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:١٧٦] أي: ولا والد، {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:١٧٦] .
{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء:١٧٦] أي: ولم يكن لها أيضاً أب، {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء:١٧٦] بمعنى: كي لا تضلوا، وعلى ذلك جملة أدلة لغوية، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء:١٧٦] .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد تقدم أن من الفروق بين آية الكلالة هنا وآية الكلالة التي في أوائل سورة النساء، أن الإخوة لأم هناك ذكرهم مثل أنثاهم في الميراث، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:١٢] أي: فالأخ له السدس والأخت لها السدس، أما هنا فهي في الإخوة الأشقاء، {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:١٧٦] .
ومن الفروق بينهما: أن الإخوة لأم لا يتجاوز نصيبهم كلهم مجتمعين الثلث {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:١٢] أما هنا في حالة الإخوة الأشقاء فقد يحوزوا على الميراث كله، {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:١٧٦] .
هذه الآية نزلت في جابر بن عبد الله، قال جابر: (مرضت فأغمي عليَّ فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين فقلت: يا رسول الله! إني أموت ولا يرثني إلا كلالة، فتوضأ وصب عليَّ من وضوئه، فنزلت آية الكلالة: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:١٧٦] ) .
وهذه الآية مع السهولة التي سمعتموها في تفسيرها كما ذكر ذلك عدد من العلماء إلا أنها من الأمور التي خفيت على أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه بشدة، حتى قال: (ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، ما سألته عن الكلالة) وفي رواية: (ثلاث وددت أن النبي مات وقد عهد إلينا فيها عهداً: الكلالة، وأبواب من الربا، وذكر شيئاً ثالثاً) وفي الرواية الأخرى يقول: (كنت أكثر من سؤال النبي عن الكلالة حتى ضرب بيده في صدري وقال: (يا ابن الخطاب ألا تكفيك آية الكلالة التي في آخر سورة النساء) .
فبهذا تنتهي سورة النساء، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ونسأل الله أن يتجاوز عن الأخطاء والهفوات والزلات، والأمر لله سبحانه وتعالى، ثم لإخواننا أن يقرروا هل سيحدث اختبار فيها أو لا، والكلام فيها عند الشيخ محمد غريب حفظه الله تعالى، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.