[من آداب الاستئذان]
هذا، ويكره للمستأذن أن يقول: أنا، إذا سئل: من أنت؟ ففي الصحيح: أن جابراً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه، فقال النبي: (من؟ قال: أنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنا!! كأنه كرهها عليه الصلاة والسلام) .
فيكره أن تقول: أنا، وليست الكراهية على الإطلاق، إنما هي في باب الاستئذان، بل قل: أنا فلان.
أما قول القائل: أنا فعلت كذا، فلا بأس بها، وقول بعضهم: أعوذ بالله من كلمة أنا، لا أعلم له مستنداً، إلا إذا كان على سبيل الغرور والكبر والاختيال فيذم، لكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) .
روى الخطيب البغدادي في جامعه: أن علي بن عاصم طرق على شعبة الباب، فقال شعبة: من؟ قال: أنا، قال: ليس لي صاحب اسمه أنا! حدثني محمد بن المنكدر حدثنا جابر بن عبد الله قال: أتيت رسول الله، فذكر الحديث.
والإذن إنما شرع لأجل البصر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعُل الإذن من أجل البصر) ، وقد ورد حديث ينظر في إسناده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذن أحدكم فلا يأت الباب من قبل وجهه، إنما يأتيه من يمينه أو عن يساره) ، وهذا أدعى إلى عدم وقوع البصر على شيء يكره، والله أعلم.
قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:٢٨] ؛ حتى إذا كان البيت مفتوحاً يشرع لك أن تستأذن، وإذا لم يأذن لك أحدٌ، ولم يرد عليك شخصٌ، ولم تجد في الباب أحداً؛ فلا تدخل حتى يؤذن لك، فإن البيت ولو كان فارغاً ودخلته قد تكون مظنة للاتهام، وقد تحدثك نفسك بالسرقة منه، وقد تضع نفسك في مواطن الريب والشكوك، قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا} [النور:٢٨] .
ثم سؤال آخر: إن وجدت فيه أحداً وأذن لك بالدخول، فهل تدخل؟ الأمر فيه تفصيل: إذا وجدت في البيت امرأةً بمفردها، وقالت لك: ادخل، وأنت وحدك؛ فلا يشرع لك الدخول؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء! قال قائل: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟! -أي: قريب الزوج- قال: الحمو الموت) .
أما إذا أتيت أنت وزوجك إلى رجلٍ في بيته، فلم تجدا في البيت إلا امرأته، وأذنت لكما بالدخول، فتدخل أنت وزوجك، وتجلس زوجك معها، وأنت تنتظر داخل البيت في مكان آمن، وإذا كان مجموعة رجال، والفتنة مأمونة، والبيت به امرأة واحدة، وأذنت بالدخول برضا زوجها بذلك؛ جاز لهم الدخول، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يلجن رجلٌ على مغيبة بعد يومي هذا، إلا ومعه الرجل أو الرجلان والثلاثة) ، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل هو وأبو بكر وعمر بيت أبي التيهان الأنصاري رضي الله عنه في غيابه، لما أذنت لهم المرأة، وهذا محله عند أمن الفتنة، والله لا يحب الفساد.
قال سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:٢٨] : صاحب البيت هو سلطان بيته، وهو سيد بيته، وهو المسئول عن بيته، وهو أدرى بما فيه، وهو أحفظ لعورته، وأعلم بانشغاله من غيره، فإذا استعمل هذا اللفظ الشديد بلا مقدمات وقال لك مباشرة: ارجع، لزمك أن ترجع، من العلماء من قال: ترجع وأنت راضٍ مسلم لحكم الله سبحانه، فإن هذا هو أمر الله، أما إن رجعت وأنت متضايق متبرم، وذهبت تغتابه عند الناس، وتقول: أنا طرقت عليه الباب وقال لي: ارجع، أو لم يرد عليّ؛ فأنت مخطئ، قال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] .
{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:٢٨] أي: أطهر لكم، فالزكاة تطلق على التطهير، كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:١٠٣] .
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:٢٨] ، أي: عليمٌ بقلوبكم، وعليمٌ باتجاه أبصاركم، وعليم بنياتكم.
ثم قال سبحانه مرخصاً في بعض الدور: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [النور:٢٩] أي: ليس عليكم إثم، وليس عليكم حرج، {أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور:٢٩] ، ما هي البيوت غير المسكونة المرادة في الآية الكريمة؟ من العلماء من قال: هي السقائف التي كانت على الطرقات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان أهل الفضل وأهل الخير ينشئون سقائف وبيوتاً على الطرقات، فينتفع بها المسافرون للاستظلال بها وللراحة فيها، ويضعون فيها متاعهم، فمن العلماء من قال: إن المراد بالبيوت الغير مسكونة السقائف، كسقيفة بني ساعدة، التي هي سقيفة سعد بن عبادة وأسرته.
ومن العلماء من قال: إنها الدكاكين التي لا يحتاج الداخل إليها إلى إذن، والنوادي التي يرتادها المرتادون ولا تحتاج إلى إذن، وبصفة عامة: هي الأماكن العامة التي لا تحتاج إلى إذن.
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور:٢٩] ، هنا تقدير أي: غير مسكونة بأحدٍ بعينه، فلا يلزم إذنٌ بالدخول إليها، {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:٢٩] ، قال بعض العلماء: ليس المراد بالمتاع: الجهاز الذي يُتجهز به فقط، إنما المراد بالمتاع: كل ما يتمتع به، فقد يتمتع الشخص بالنوم مثلاً، قد يتمتع بالثياب، قد يتمتع بالمأكل، قد يتمتع بالاستظلال، والدنيا كلها متاع، فليس معنى قوله تعالى: (متاع) أي: حاجة من الأمتعة المعلومة لدى الناس، بل الأمر أعم من ذلك.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:٢٩] .