[الدين شامل لجميع مناحي الحياة]
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:١٠] وهذا فيه إشارة يشير إليها العلماء وهي: أن العبادات إذا انتهت لا تظن أنك ابتعدت عن ربك سبحانه، فلست مع الرب في الصلاة فقط كما يقول أهل الكفر وغيرهم الذين يرون أن الصلاة في المساجد فقط، وخارج المساجد لا دخل للدين بالحياة، ولا دخل للدين بالسياسة، بل ربنا يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:١٠] أي: فليكن ذكر الله منك على بال في عملك وفي طرقك.
وهكذا أيضاً قيل في الحج: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:٢٠٠] ، إذا قضيتم المناسك وانتهيتم من أعمال الحج لا تظنوا أن الرب غاب عنكم، أو أنكم غبتم عنه وابتعدتم عن الرب، بل: {إِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:٢٠٠] .
كذلك بعد الانتهاء من الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:١٨٥] .
كذلك دبر الصلوات، وبعد أن تنتهي من الصلاة، ويبوب العلماء لذلك: باب الذكر بعد الصلاة، وقد قال ابن عباس: (كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير) ، وفي رواية أخرى: (إن رفع الصوت بالتكبير عند الانتهاء من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
فكلما انتهيت من عبادة بعد أن تلبست بها لا تظن أنك فارقت الذكر، بل حث ربنا على الذكر في كل المواطن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:٤٥] تبدأ عملك باسم الله، أنت الشافي يا رب! أنت المعين يا رب! تدعو الله عز وجل، تجعل ذكر الله دائماً لك على بال، لا تفارق الذكر، فإنك مهما كنت معتصماً بالذكر فشيطانك مهزوم، وتعلوه سياط التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، أما إذا غفلت نشط عليك الشيطان وتمكّن منك، فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بالخناس في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ) * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:١-٤] يخنس: أي: يختفي عند ذكر الله سبحانه وتعالى.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:١٠] فأفادت الآية أن ذكر الله كثيراً يجلب لك الفلاح، والفلاح: هو الفوز بالمطلوب والفرار من المرهوب.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:١٠-١١] لِم لم يقل: وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليهما؟ فالإجابة على هذا كالإجابة على قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:٤٥] ولم يقل: وإنهما.
وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء:١١٢] ولم يقل: ثم يرم بهما بريئاً.
وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:٦٢] ولم يقل: والله ورسوله أحق أن يرضوهما.
وكذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا} [التوبة:٣٤] ولم يقل: ولا ينفقونهما، وكذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون:٥٠] ولم يقل: آيتين، إلى غير ذلك.
فقال العلماء: اجتزئ بأحدهما لدلالته على الآخر، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:٨١] أي: وتقيكم أيضاً البرد، {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل:٨١] فالسرابيل تقي الحر كما أنها تقي أيضاً من البرد، فحذف البرد لدلالة الحر عليه، وكذلك تقدم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:١] أي: ونساء كثيراً، حذفت كثيراً لدلالة السياق عليها، والله أعلم.