[معنى تكفير السيئة]
إن الله سبحانه وتعالى يقول لعباده: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:٣١] نكفر: أصل التكفير التغطية، ومنه قوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:٢٩] الذين يضعون البذرة في الأرض ويغطون عليها، وقول الشاعر: في ليلة كفر الغمام نجومها أي: غطى الغمام نجومها، فأصل التكفير التغطية.
{نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:٣١] أي: نغطيها ولا نؤاخذكم بها، ففي باب السيئات عفو ومغفرة وتكفير، فالعفو: المحو بالكلية والإزالة، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا} [البقرة:٢٨٦] فالمغفرة: الستر، والتكفير: التغطية وعدم المؤاخذة.
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:٣١] .
يعني: إذا اجتنبتم الكبائر كفرنا عنكم الصغائر.
وقد تقدم أن السيئة لها اصطلاحات، وكل اصطلاحٍ يعطي معنىً من المعاني يفهم من السياق الذي وردت فيه كلمة السيئة، وقد تقدم شرح هذا، فقيل: إن السيئات أو السيئة تطلق على الكفر أحياناً.
قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:٢٧] والخلود لا يكون إلا للكفار، وقال سبحانه في شأن قوم لوط: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:٧٨] أي: الجريمة المعهودة وهي من الكبائر، وهنا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:٣١] أي: الصغائر.
فوجه الخطأ الذي يخطئ فيه الكثيرون أن يلبسوا اصطلاحاً من الاصطلاحات معنىً من المعاني ليس هو معناه المراد.
فهذا باب يخلط فيه كثير من العلماء فضلاً عن المبتدئين في طلب العلم، وهو أن يلبسوا الاصطلاح معنىً غير معناه الصحيح، وأحياناً تأتي أخطاء أخر نتيجة رواية حديث بالمعنى والخطأ في روايته بالمعنى، أو اختصار الحديث والخطأ في اختصاره، ومن النماذج على ذلك: ما أورده ابن حزم وابن القيم رحمهم الله في مسألة طلاق الحائض: هل إذا طلق الرجل امرأة وهي حائض هل تعتْبر هذه طلقة وتحسب عليه أو لا تحسب عليه؟ فالجمهور من أهل العلم على أنها تحسب عليه طلقة، لقول ابن عمر: (حسبت عليّ طلقة) ، أورد ابن حزم رحمه الله وكذلك ابن القيم رحمه الله أثراً عن ابن عمر وغلطا فيه، وهذا الأثر روياه من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: (وسئل عن طلاق الرجل امرأة في حيضتها؟ قال: لا يعتد بذلك) رويا الحديث مختصراً مقتصراً على هذا اللفظ فقالا: ها هو ابن عمر يفتي بأن طلاق الحائض لا يقع والقصة حدثت له.
وهذا كلام غير مقبول لوجوه: منها: أن ابن عمر نفسه قال: (حسبت عليّ تطليقة) كما في صحيح البخاري، فلما بحثنا عن إسناد الحديث في بعض الكتب في المصنفات كمصنف ابن أبي شيبة وجدنا الحديث من نفس طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: (أنه سئل عن طلاق المرأة وهي حائض قال: لا يعتد بتلك الحيضة) الرواية التي أوردها ابن حزم وابن القيم رحمهم الله وشنعوا بها (لا يعتد بذلك) هذه الرواية التي في المصنف (لا يعتد بتلك الحيضة) وهناك فرق.
(لا يعتد بتلك الحيضة) ما معناها؟ يعني: لا يعتد بأن الحيضة تحسب من الأقراء، يعني: إذا طلقها وهي حائض وبدأت تعتد كما أمرها الله {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:٢٢٨] هل يحسب هذا الحيض الذي طلقت فيه من الأقراء أو لا يحسب؟ فقال ابن عمر (لا يعتد بتلك الحيضة) ولم يقل: (بتلك التطليقة) فوهما رحمهما الله وظنا أنه قصد بقوله: (لا يعتد بذلك) التطليقة.
ولذلك كل الروايات الواردة عن ابن عمر تؤيد أنها حسبت عليه.
كما في الرواية: (فذهب عمر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فأمره أن يراجعها وعدّها واحدة) ، أي: أمره الرسول عليه الصلاة والسلام أن يراجعهما.
وهو أقوى مما يقول به ابن حزم.
والشاهد من هذا: أن الاختصار أحياناً قد يخل.