وبعد: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:١] إن من عادة العرب: أنهم كانوا إذا أحبوا أن يلاطفوا شخصاً دعوه بصفة من الصفات التي هو متلبس بها، فمن ذلك: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت بينه وبين فاطمة رضي الله عنهما شيء، فخرج علي من البيت ونام في المسجد، فأتاه الرسول في المسجد وقد علاه التراب، فقال له: (قم يا أبا التراب!) ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصحابي:(قم يا نومان!) .
فإذا أحبوا أن يتلطفوا مع الشخص ينادونه بصفة هو متلبس بها.
وعلى هذا فالآية فيها ملاطفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناداه ربه بصفة تلبس بها وهي التزمل، والتزمل: التلفف، وكان هذا بعد نزول الوحي عليه لأول مرة، فقد اعتراه الخوف الشديد واعتراه البرد، ورجع إلى أهله فقال:(زملوني زملوني) ، وقال:(دثروني دثروني) ، (زملوني) أي: غطوني، فمعنى (المزمل) : النائم المتلفف بالثوب.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:١-٢] ، أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، أي: قم الليل كي تصلي، لكن حذفت (كي تصلي) ؛ لأن العرب يفهمون ما المراد بقيام الليل، وقد قدمنا نماذج:{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}[ص:٣٢] ، ما هي التي توارت؟ العرب يفهمون أن التي تتوارى بالحجاب هي الشمس.
(يا أيها المزمل) * (قم الليل إلا قليلاً) أي: قم صل في الليل أو صل الليل إلا قليلاً منه، وقد صح أن سعد بن هشام أتى إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يسألها عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:(يا أم المؤمنين! أخبريني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت له: ألست تقرأ: (يا أيها المزمل) ، (قم الليل إلا قليلاً) ؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية قام من الليل هو وأصحابه حتى ورمت أقدامهم، قاموا حولاً اثني عشر شهراً حتى تورمت أقدامهم، ثم نزل قوله تعالى.
في آخر السورة:{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:٢٠] ، فنسخت هذه الآية الآية التي قبلها.
فمن العلماء من يرى أن قيام الليل كان واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، ويستدل هذا القائل بقوله تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}[الإسراء:٧٩] ، فـ (نافلة لك) على رأي بعض العلماء أي: زيادة لك على أمتك، فأمتك ليست مكلفة بقيام الليل، أما قيام الليل فهو نافلة لك، أي: أنت مكلف به زيادة على أمتك على رأي بعض المفسرين.