[تفسير قوله تعالى: (قل أعوذ برب الناس.]
ثم تممت الاستعاذة بقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:١-٣] فاستعاذ العبد في هذه السورة بملك الناس، وبرب الناس، وبإله الناس الذي هو معبودهم، من ماذا؟ استعاذ بالرب وبالملك وبالإله {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس:٤] والوسواس هو الشيطان، والوسواس صفة له، والوسوسة هي: الصوت الخفي، ومنه قيل لحركة الحلي في الإذن: وسوسة الحلي؛ لأن صوته خفيف لا تسمعه إلا المرأة التي تلبس الحلي.
فالوسوسة هي الصوت الخفي، والوسواس هو الشيطان، يوسوس أي: يحدث بصوت خفي في الصدر، فاستعذنا برب الناس، وملكهم وإلههم من شر الوسواس الذي هو إبليس.
قال بعض العلماء: إبليس يرانا ولا نراه، كما قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:٢٧] ، فاستعذنا بالذي يرى إبليس ولا يراه إبليس، فالله يرى إبليس، وإبليس لا يراه، فاستعذنا برب الناس وإلههم ومليكهم من شر هذا الوسواس.
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:٤] .
الخناس هو: الشيطان، والخنوس صفة له، فهو يخنس أي: يختفي عند ذكر الله سبحانه وتعالى، ومنه قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير:١٥-١٦] ، ومنه قول أبي هريرة رضي الله عنه: (لقيني النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وأنا جنب، فانخنست منه) ، أي: اختفيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فوصف إبليس بأنه خناس، أي: كثير الاختفاء، فكلما ذكرت الله اشتد اختفاؤه وأمعن في الهرب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط) .
قال العلماء: إن شيطان الكافر عاتٍ متمرد على الكافر، أما شيطان المؤمن فدائماً مضروب ودائماً مطرود، فالمؤمن دائماً يعلوه بسياط التسبيح والتحميد والتكبير، لا يكاد الشيطان يفيق من ضربة ضربها به المؤمن بقول: لا إله إلا الله؛ حتى تأتيه ضربة أخرى فيها: لا حول ولا قوة إلا بالله، أو فيها: سبحان الله، أو فيها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى أن سجود المسلم يبكيه كما قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار) .
فيولي باكياً إذا سجدت، ويولي هارباً وله ضراط إذا سمع المؤذن، ويولي هارباً من البيت إذا دخلت البيت فذكرت الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه.
قال: أدركتم المبيت والعشاء) ، فهو لص ولكنه لص جبان، يهرب إذا ذكر الله سبحانه وتعالى، وإذا لم تذكر الله شاركك في أعمالك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إن أحدكم إذا أتى أهله فقال: باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن يقدر بينهما ولد، لم يضره شيطان) ، أما إذا لم يفعل فماذا يكون؟ في تفسير قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء:٦٤] قال بعض العلماء: مشاركة الشيطان الرجل في ولده يكون عند الجماع، فيتلذذ الشيطان بالمرأة إذا لم يذكر زوجها الله سبحانه وتعالى عند الجماع.
وصف الشيطان بأنه خناس، أي: كثير الاختفاء، وقد قدمنا أن شيطان المؤمن ذليل يطرد ويهان، فإذا سقطت من دابتك وقلت: باسم الله، تصاغر حتى يكون مثل الذباب، وإذا قوي إيمان الشخص فر منه الشيطان، كما قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) ، وفي الرواية الثانية: (إن الشيطان يفر منك يا عمر!) فإذا قوي إيمان الشخص، وتسلح بكتاب الله، وبالذكر الوارد عن رسول الله، وتحصن بالحصون الواردة عن رسول الله؛ لم يجد الشيطان إليه منفذاً ولا سبيلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} [الناس:٤] ، قلنا: الوسوسة هي: الصوت الخفي، ومن شواهده ما جاء في قصة حديث أم زرع، وفيه قول المرأة عن زوجها: أناس من حلي أذني؟ أي: ملأ أذني بالحلي، حتى سمع لها الصوت.