تفاصيل العمرة لا يتسع الوقت لذكرها، لكن ما يصنعه إخواننا المصريون على وجه الخصوص من الذهاب إلى مسجد التنعيم ليأتوا بعمرة أخرى بعد أن يعتمروا عمرتهم التي أهلوا بها من الميقات، وكلٌ يأتي من مسجد التنعيم بعمرة، أو بعمرتين، أو بعشر عمرات عن أمه، أو عن أخته، أو عن خالته لم يرد عن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذي يقول بذلك عليه أن يثبت لنا ذلك بآثار عن الصحابة تفيد ذلك، فما ورد إلا فعل أم المؤمنين عائشة، وكان لعلة لا تخفى، فإن أم المؤمنين عائشة خرجت حاجة، فلما أهلت بالحج واقتربت من مكة حاضت، فلما حاضت انتظرت، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم:(افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) ، فانتظرت ودخلت عليها أيام الحج، وقد أهلت بعمرة، وقالت في الميقات:(لبيك اللهم لبيك، لبيك عمرة) ومشت، وعلى المعتمرة أن تطوف وأن تسعى، لكنها حاضت، فلما حاضت ونهاها الرسول صلى الله عليه وسلم عن الطواف حال حيضها لم تطف طواف عمرتها، فدخلت عليها أيام الحج، وجاء يوم التروية فبدأ الناس يهلون بالحج:(لبيك اللهم لبيك، لبيك حجاً) ، وعائشة رضي الله عنها أهلت بالعمرة، تكن انتهت منها بعد، فإن انتظرت حتى تطهر، فقد لا تطهر إلا بعد يوم عرفة، فيفوتها الحج، فسألت النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا أصنع؟ قال لها عليه الصلاة والسلام:(ارفضي عمرتك) ، أي: انقضي عمرتك.
وفي رواية أنه قال لها:(أهلي بالحج) ، فرفضت العمرة، أو أقرنت بالحج -أي: أدخلت على عمرتها الحج- فقالت:(لبيك اللهم لبيك، لبيك حجاً) ونقضت العمرة التي لم تنته منها، فذهبت إلى عرفات، ورجعت من عرفات إلى منىً، ورمت الجمار مع المسلمين، وبعد أن طهُرت طافت بالبيت طواف الحج، وبعدها أراد الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه أن ينصرفوا، فدخل عليها فإذا هي تبكي، فقال:(لم تبكي؟!) .
قالت: كل أزواجك يرجعن بحجة وعمرة، وأنا أرجع بحجة يا رسول الله! قال:(اذهب بها يا عبد الرحمن إلى التنعيم فأعمرها من التنعيم) ، فذهب بها عبد الرحمن إلى التنعيم، فأعمرها من التنعيم، ولم يرد أن عبد الرحمن نفسه أحرم معها بالعمرة، ولو كان فيه خير لاعتمر معها رسولنا عمرة لنفسه إضافية، فالعمرة مأجور فاعلها، فجاءت عائشة بعمرة أخرى من التنعيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(هذه مكان عمرتك التي نقضتيها) ، فتمسك بهذا بعضهم وقالوا: يشرع أن تعمل عمرة من التنعيم؛ لأن أم المؤمنين فعلت ذلك، ويذهب إخواننا كل يوم -وأنت في المسجد الحرام معتكف- من مكة إلى التنعيم، وبعضهم يأتي في اليوم بخمس أو ست عمرات، أو بعشر عمرات، فبأي دليل هذا؟ ومَن مِنَ الصحابة فعل ذلك؟! وأين الأسانيد إليهم بهذه الأفعال؟! وهل فعلها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أو لم يفعلها؟! والرسول عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع عمرات، فاعتمر عليه الصلاة والسلام عمرة القضية، ويسمونها عمرة القضاء، وهي العمرة التي كانت بعد العمرة التي صد فيها عن المسجد الحرام يوم الحديبية، فصده أهل مكة عند الحديبية، ووقع بينهم الصلح المشهور، واتفقوا أن يأتي من العام القادم بعمرة مكان تلك العمرة التي صد فيها عن المسجد الحرام، وسميت عمرة القضية للمقاضاة التي وقعت بين الرسول وبين أهل الشرك، وسميت عمرة القضاء لأنها قضاء عن العمرة التي صُدّ عنها الرسول عليه الصلاة والسلام.
والخلاف في هذه التسمية -أي: تسمية عمرة القضية قضاء- ينبني عليه أن يقال: من ذهب إلى عمرة وحيل بينه وبين تمامها، فهل يشرع له أن يعتمر من العام المقبل مكانها، أم لا يشرع؟ فالذين قالوا: سميت بعمرة القضاء لأنها قضاء عن العمرة السابقة.
قالوا: يستحب له أن يقضي العمرة التي فاتته.
ومن قال من أهل العلم: سميت بعمرة القضية للمقاضاة التي دارت بين رسول الله وبين المشركين قالوا: لا يشرع له القضاء عن التي أحصر عنها، بل يتحلل ولا شيء عليه.