[تفسير قوله تعالى: (بل يريد كل امرئ منهم)]
قال تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:٥٢] ، فكل واحد منهم يريد أن يوحى إليه، وتنزل عليه الرسالة، ويكون نبياً كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام نبي! كما قال الله عنهم: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:١٢٤] فأجابهم الله بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤] ، وكما ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء:٩٠] إلى قولهم: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:٩٣] فكل واحد منهم يريد أن ينزل عليه كتاب، قال تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:٥٢] ، فالآية تفيد أنه لا ينبغي أبداً أن يكون هناك تحاسد، فالتحاسد حملهم على الكفر، فلما سألوا هذا السؤال وأرادوا هذا الطلب قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤] فليس لك إلا أن تقنع بما آتاك الله عز وجل.
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ} [المدثر:٥٢-٥٣] كلا أي: لن يؤتى أحد منهم هذه الصحف المنشرة {بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر:٥٣-٥٥] فمن شاء اتعظ ومن شاء لم يتعظ.
{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ} [المدثر:٥٤-٥٦] أي: وما يتعظون وما يعتبرون، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر:٥٦] ، يعني: اتعاظهم واعتبارهم بإرادة الله، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} [المدثر:٥٦] أي: أهل لأن يتقى، وأهل لأن يخاف، وأهل لأن يخشى، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:٥٦] أي: أهل لمغفرة الذنوب، فالآية مع أنها أفادت تجريم هؤلاء الكفار، لكن أيضاً فتحت باب التوبة لمن أراد أن يتوب ويرجع إلى الله، قال تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:٥٦] أي: استغفروه فهو سبحانه سيغفر لكم، فانظر إلى السورة، ذكرت طائفة من المجرمين والذم الوارد في حقهم، والعقاب الوارد في حقهم، ثم فتحت لهم باب التوبة لقوله: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:٥٦] ، كما ختمت السورة التي قبلها سورة المزمل بقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:١٩٩] ، وهذا مطرد في كتاب الله، تأتي التهديدات ويأتي الوعيد لمقترفي الكبائر ومرتكبي الذنوب، ثم يفتح لهم باب التوبة، وقدمنا لذلك جملة من النصوص كقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:٥٩-٦٠] .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٦٨-٧٠] .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:١٠] .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:٤-٥] أي: أبواب التوبة مفتوحة.
وقال لقطاع الطرق: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:٣٣] إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:٣٤] ، إلى غير ذلك من الآيات.
فختمت السورة بختام طيب مرغب للتائبين في التوبة، وكاسر للمقنطين الذين يقنطون الناس من رحمة الله، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} [المدثر:٥٦] أي: أهل لأن يتقى، أهل لأن يخشى، وهو أيضاً أهل للمغفرة، فمن استغفر ربه غفر له، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:١١٠] .
وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.