تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا.)
ثم قال تعالى محذراً من القتل العمد: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:٩٣] ، ذكرت الآيات القتل الخطأ والقتل العمد، وبعض كتب المالكية أدخلوا قسماً ثالثاً وهو: شبه العمد، أي: أن هناك حالات تشك هل هي عمد أو خطأ؟ فمثلاً: رجل ضرب رجلاً بشيء يشك فيه هل يكون عمداً أو خطأ، فهذه فيجعلونها شبه عمد.
وفي الحقيقة أن من أهل العلم من يلغي هذه المرحلة بحديث (ادرءوا الحدود بالشبهات) فيرجعها إلى الخطأ؛ لعدم وجود شبه دليل صريح على مسألة شبه العمد، والله أعلم.
فمثلاً: مدرس يؤدب طالبه، وفي أثناء الضرب مات هذا الطالب، أو رجل يعالج بالقرآن وهو يضرب المريض فمات هذا المريض، فيحتمل أنه أراد قتل المريض، ويحتمل أنه لم يرد.
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:٩٣] هل أي مؤمن يقتل مؤمناً متعمداً جزاؤه جهنم أم أن المتأول له أحكام؟ لأن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قاتل وقتل فعلاً، فطائفة معاوية رضي الله عنه قتلت عمار بن ياسر في طائفة من أصحاب علي رضي الله عنه، فهل كل من قتل مؤمناً متعمداً جزاؤه جهنم؟ التقييد الأول: جزاؤه جهنم إذا لم يغفر الله له؛ لأن الله قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فإذا لم يغفر له فلن يكون جزاؤه جهنم؛ وقد جاء (أن قوماً أتوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، زنوا فأكثروا، وقتلوا فأكثروا، وسرقوا، فهل لهم من توبة؟ فنزل قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣] ) ، وكذلك حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض.
ثم كان مآله إلى أن تلقته ملائكة الرحمة عندما تاب.
إذاً تقيد الآية بما إذا لم يغفر له.
وروي عن الحبر الكبير عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال: (ليس لقاتل مؤمنٍ توبة) ، واحتج بهذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣] ، فقد تراكمت عليه العقوبات؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) .
ولذلك عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى رغم عدله الواسع المنتشر وسيرته الحسنة، إلا أنه كلف -عندما كان أميراً على المدينة من قبل بني أمية- أن يضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير، فضربه وتركه في برد المدينة القارس الشديد، وكان خبيب رجلاً صالحاً حتى مات خبيب في البرد، فكان عمر كلما ذكر بعد أن ولي الخلافة يبكي ويقول: من لي بـ خبيب؟! من لي بـ خبيب؟! من لي بـ خبيب؟! ويتأسف غاية الأسف على الذي صنعه بـ خبيب.
قال عليه الصلاة والسلام كما في رواية المسند -كما في معنى الحديث-: (إن المقتول يأتي يوم القيامة آخذاً بتلابيب قاتله معه رأسه، يقول: يا رب! سل هذا فيما قتلني.
فيقال: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيبوء بإثمه وإثمه فيتحمل القاتل كل ذنوب المقتول ويكون من أصحاب النار) عياذاً بالله.
فالآية فيها تقييدات، فمن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم إذا لم يتب الله عليه، ويقول: ابن القيم: إذا لم يكن متأولاً، وهذا التأول يكون مقبولاً أو تكون له وجهة شرعية مثلاً.
فمثلاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تقاتلوا فيما بينهم، فرب العزة يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:٩] ، هناك شخص مؤمن في طائفة معاوية يتخيل أنه مصيب وأنه يطالب بدم أمير المؤمنين عثمان الذي قتل مظلوماً، ويبدأ برفع السيف على أخيه المسلم من وجهة شرعية، فحينئذٍ هذا التأول وإن كان لا ينجي صاحبه من العذاب جملةً إلا إذا غفر الله له، لكن لا يخلد صاحبه في النار.
وهناك قيود أخر، منها: إذا لم يكن المقتول يستحق القتل، فإذا كان المقتول زانياً محصناً فقتل، أو قاتل نفس بغير حق فقتل، أو مرتداً عن دينه فقتل، أو كان قاطع طريق، أو فعل فِعل قوم لوط واستوجب حداً أقامه عليه الإمام، فهناك استثناءات تضبط لنا هذه الآية.
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:٩٣] سبق أن عبد الله بن عباس يرى أنه ليس لقاتل النفس توبة، ويقسم في بعض الروايات أن آية النساء هذه نزلت بعد آية الفرقان، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٦٨-٧٠] ، فـ ابن عباس يرى أن قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣] ، يرى أن هذه الآية هي القاضية على آية الفرقان في الحكم.
أما جمهور الصحابة فلم يوافقوا على هذا الرأي وقالوا: له توبة إن تاب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام (إن للتوبة باباً مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) ، ولقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] ، وهناك جملة أدلة منها: قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج يهدم ما قبله) ، وعمومات احتج بها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أهل العلم من التمس وجهاً لـ عبد الله بن عباس فقال: إن مراد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن قاتل المؤمن في الغالب أنه لا يوفق للتوبة، فإن قيل: إن هناك من يقتل ويتوب، فالإجابة: أن هناك من يقتل ويتوب، ولكن في الغالب أن الذي يقتل لا يتوب، فإن وجد شخص أو ثلاثة أو عشرة، لكن الغالب على أن القتلة لا يتوبون، وهذا أحد الالتماسات لتوجيه رأي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وجعله يرجع إلى رأي جمهور الصحابة رضي الله عنهم، وبعض العلماء يحمل الآية على المستحل، والله أعلم.
{فجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ} [النساء:٩٣] ، فاجتمع عليه الغضب واللعن.
{وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣] ، في قوله: {وَأَعَدَّ لَهُ} [النساء:٩٣] دليلٌ على أن النار مخلوقة، (وَأَعَدَّ لَهُ) دليل على أن النار معدة الآن، وقوله تعالى أيضاً: {اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ} [آل عمران:١٣١] ، وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اشتكت النار إلى ربها فقالت: أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين، فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها، وأشد ما تجدون في الصيف من حرها) ، وقد رآها النبي في صلاة الكسوف، وكل هذه أدلة تدل على أن النار مخلوقة الآن، وقوله: (بينما رجل يمشي في حلة أعجبته نفسه يتبختر إذ خسف به فهو في نار جهنم يتجلل فيه) ، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لما خلق الله النار قال لجبريل: اذهب فانظر إليها) ، فكل هذه أدلة تدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن.