[ذم الله تعالى لمن يقول ما لا يفعل]
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: سورة الصف من السور المدنية، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
يقول الله سبحانه وتعالى فيها: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الصف:١] ، أي: نزه الله سبحانه وتعالى كل من في السموات ومن في الأرض، وعظمه سبحانه وتعالى، وهو العزيز الذي قهر، وغلب كل شيء، الحكيم في فعله وخلقه وتدبيره، كل شيء في السموات والأرض نزه الله عن كل نقص وعيب وضعف، ونزه الله عن كل مولود، وعن الوالد والزوجة والشريك كذلك.
ثم هنا عتاب لأهل الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٢] ، يا من آمنتم بي، وصدقتم برسلي، وأقررتم بكتبي! (لم تقولون ما لا تفعلون) ، {كَبُرَ مَقْتًا} ، وكبر: أي عظم، والمقت: هو أشد البغض.
{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٣] ، وقد تضافرت النصوص على هذا المعنى، وذم كل من قال ولم يفعل، بل وتذم المتشبع بما لم يعط، والذي يحب أن يحمد بما لم يفعل، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:٤٤] ، وقال شعيب صلى الله عليه وسلم لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:٨٨] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل من أهل النار يوم القيامة، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه -أي: تخرج أمعاؤه من بطنه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه- فيطيف به أهل النار ويكونون من حوله، ثم يسألونه: يا فلان! ما لك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: بلى، ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) .
وقد تضافرت أيضاً أشعار العرب في ذم من هذه سبيله وطريقه، فقد قال الشاعر: ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم والأشعار في هذا الباب كثيرة.
فنصوص الكتاب ونصوص السنة المطهرة وأقوال الأفاضل والعلماء كلها تذم من قال قولاً ولم يعمل به، بل وتذم -كما سمعتم- من تشبع بما لم يعط، قال الله سبحانه: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:١٨٨] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) .
قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُو} [الصف:٢-٣] ، ما هو الشيء الذي تكلم به المؤمنون ولم يفعلوه حتى عوتبوا بهذه الآية الكريمة؟ ما هو الشيء الذي من أجله عوتب المؤمنون هذا العتاب بقوله سبحانه لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا} اشتد غضب الله وعظم بغضه سبحانه وتعالى لمن قال ما لم يفعل؟ قال فريق من أهل العلم: إن هذا الشيء هو تمنيهم فرض الجهاد، وتمنيهم الإذن به، فلما أذن لهم في القتال وأذن لهم بالجهاد فر كثير منهم، كما قال سبحانه: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} [محمد:٢٠] أي: سورة فيها إذن لنا بالقتال، {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:٢٠-٢١] ، فكان منهم من تمنى أن يؤذن له بالجهاد، فلما أمروا بالقتال تولوا، كما حكى تعالى قول طائفة من أهل الإيمان: {لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:٢٠-٢١] .
وقال الله سبحانه أيضاً في هذا المعنى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:٧٧] أي: لا تنتصروا ممن ظلمكم، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٧-٧٨] .
وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآية الأخيرة نزلت في عبد الرحمن بن عوف مع أصحاب له، أوذوا في الإسلام فقالوا: لم لم يؤذن لنا في الانتصار ممن ظلمنا، وقد كنا أعزة في الجاهلية -أي: لم يكن أحد ينال منا في الجاهلية- فلما أسلمنا أصبحنا أذلة؟ فلما فرض عليهم القتال، نكلوا عنه أو نكل فريق منهم عنه، فنزل قول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا} [النساء:٧٧] .
وكذلك قال الله سبحانه وتعالى في شأن بعض أهل المدينة يوم الأحزاب: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:١٥] ، وقد كان فريق منهم عاهد الله ألاَّ يولي الأدبار، فلما جاءهم الأحزاب يوم الأحزاب قالت طائفة منهم: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:١٣] .
فهذه النصوص مجتمعة تبين أن العتاب في قوله سبحانه: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٢-٣] منصب بالدرجة الأولى على الذين تمنوا الإذن في الجهاد، أو تمنوا فرض القتال، فلما فرض نكلوا عنه وقصروا فيه، وإن كان عموم الآية يخرجها إلى كل من قال ما لم يفعل.
ويؤخذ من هذا: أن الشخص لا يشرع له أن يتمنى البلاء، فقد يبتلى ولا يقدر عليه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما أخرجه أبو داود بسند صحيح: (إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهاً) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) ، فلا يجوز لك أن تتمنى مزيداً من البلاء، فإن الله قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:٦٦] ، فإذا فعلت ما أمرت به ولم تطلب المزيد كان في هذا خير لك وتثبيت، وكذلك قال تعالى في الآية المشابهة: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:٢١] أولى لك من أن تتمنى أشياء هي فوق طاقتك {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:٢١] ، فلا يشرع لك أن تتمنى البلاء، ولا يشرع لك أن تتمنى الفتن، فرسولنا يقول في دعائه المأثور: (اللهم! إذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون) .
فلا تدري ما تؤول إليه الفتنة معك، هل تصبر أمامها أم تضعف وترتد على الأدبار، والعياذ بالله.
ولا تنافي بين هذا وبين تمني الشهادة في سبيل الله، فتمني الشهادة في سبيل الله محمود ومرغب فيه، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) ، فتمني الشهادة مشروع للرجال وللنساء، فقد تمنت أم حرام بنت ملحان الشهادة في سبيل الله، وعندما ذكر النبي الغزاة الذين يركبون ثبج البحر الأخضر، قالت: (ادع الله أن يجعلني منهم يا رسول الله! قال: أنت منهم) ، فكان مآلها إلى الشهادة في سبيل الله.