[ترف أهل الشمال]
ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} أي: في دنياهم {مُتْرَفِينَ} ، وهل كل مترف في الدنيا يعذب في الآخرة؟ قطعاً ليس كل منعم في الدنيا يعذب في الآخرة، ولكن كما قال فريق من أهل العلم: إن عموم أهل الترف على الشر والفساد، فأهل الترف مفسدون وأهل شر، ولا يستثنى منهم إلا القليل، فدل على هذا الأصل قول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:٨٣] ، أي: الإنسان إذا أنعمنا عليه بنعمة أعرض ونأى بجانبه، وكما قال سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:٦-٧] أي: من رأى نفسه مستغنياً عن الله بدأ في التمرد والطغيان؛ ولذلك يقول الله جل ذكره: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:١٦] من العلماء من يقول: أمرنا مترفيها بأوامرنا ونواهينا فعصوا تلك الأوامر وأقبلوا على تلك المناهي فخالفوا أمرنا بذلك، فحق على هذه القرية القول {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:١٦] .
ومنهم من يقرأها بالتشديد (أمّرنا مترفيها) أي: جعلنا المترفين أمراء فسعوا في الأرض بالفساد، فليس مجرد الترف -الذي هو النعمة في الدنيا- سبباً للعذاب، لكن سياقات الكتاب العزيز تبنى على العموم، كما قال الله جل ذكره: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:١٤] ، مع أنه أثبت لبعض الأعراب إيماناً في قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} [التوبة:٩٩] ، فليس الترف والنعيم والتنعم والاستمتاع بالدنيا وحده جالب للعذاب، فإذا أدى هذا المنعَّم في الدنيا حق الله عليه في ماله وفي صحته فهو على خير، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعم المال الصالح للرجل الصالح) ، وجاءه الفقراء يشكون ما لإخوانهم الأثرياء من الأجر بقولهم: (ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى والنعيم المقيم) ، وفي آخر الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ... ) .
فليس كل منعم في هذه الحياة الدنيا من أهل النار، وليس كل شقي في هذه الحياة الدنيا من أهل الجنة، فكم من رجل -والعياذ بالله- جمع بين شقاوة الدنيا وشقاوة الآخرة، وكم من شخص في هذه الحياة الدنيا جمع بين النعيمين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
فها هو نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام آتاه الله ملكاً لم يعطَ لأحد من بعده، ولم يحزه أحد من قبله فيما علمنا، ومع ذلك هو نبي صالح يقول: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:١٩] وها هو ذو القرنين كذلك كما قال الله: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:٨٤] ، ومكنه الله غاية التمكين في الأرض، وهو رجل صالح أثني عليه خيراً في كتاب الله سبحانه.
وهذا يجرنا إلى شيء ألا وهو: إن هناك أحاديث فيها الوعيد لأصحاب جرائم ورد في ذكرهم جملة من الخصال خصلتان أو أكثر، فهل يعذبون بسبب الخصلة الواحدة أم لابد من اقتران الخصلتين معاً؟ مثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر الزمان أقوام لهم حواصل كحواصل الطير، يصبغون بالسواد، لا يريحون راحة الجنة) هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود وغيره بسند صحيح.
فهل مجرد الصبغ بالسواد هو الذي يجعلهم لا يريحون رائحة الجنة أم يضم إليها أيضاً أنهم يحلقون لحاهم ويتركون في نهايتها شيئاً مستديراً كالذي يفعله بعض السعوديين الآن، ويصبغ الشعيرات التي في آخر اللحية بالسواد؟ هل هذا الصبغ بالسواد فقط هو الذي حذا بهم إلى أنهم لا يريحون رائحة الجنة أو نضم إليه أيضاً أنهم يحلقون لحاهم، ولا يبقون إلا مثل حواصل الطير؟ أو أن فيهم أشياء أخرى لم تذكر في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام إنما ذكرت العلامات فقط؟ أي: أن هناك خصالاً لهؤلاء الناس الذين ذكروا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لم تذكر في الحديث، ومن سيماهم: أنهم يصبغون بالسواد، وأن لهم حواصل كحواصل الطير؟ في الحقيقة أن هذا ينبني عليه فقه واسع، ليس في هذه المسألة فحسب بل في عدة مسائل، هل الصفات التي ذكرت هي وحدها الكفيلة بمنعهم من الجنة، ومنعهم أن يشموا رائحتها أم هناك صفات أخر استترت في الحديث ولم تبين، ولكن ظاهرهم أنهم يصبغون بالسواد؟ مثال آخر: وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:٣٨-٤٦] ،فهل الصفة الواحدة من هذه الأشياء المذكورة كفيلة بالحكم عليهم بالإجرام وبالحكم عليهم بالخلود في النيران؟ قطعاً هذا محل نظر، فإن بعض الأشياء التي ذكرت في قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:٤٣] إلى آخر الآيات منها صفات مكفرة بالاتفاق، موجبة للوصف بالإجرام وللخلود في النيران، كقولهم: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:٤٦] ، وصفات أخر مكفرة على خلاف بين العلماء وهي قولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:٤٣] ، وصفات أخر وهي قولهم: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:٤٤] ليست مكفرة على رأي الجماهير.
فهل اشتباك هذه الصفات معاً هو الذي يحكم عليهم بالإجرام وبالخلود في النيران أو أن بعض الصفات هي التي تحكم عليهم بذلك؟ لكل مسألة من هذه المسائل ملابساتها الخاصة، فينبغي إمعان النظر في مثل هذه الأحوال حتى يخرج الشخص بفقه صحيح متفق مع النصوص العامة والقواعد الكلية لأهل السنة والجماعة، والله أعلم.
الشاهد: أن قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:٤٥] ، إذا فسرنا الترف بأنه مجرد التنعم فلا شك أن التنعم وحده ليس بكافٍ ولا بكفيل للحكم عليهم أن يكونوا من أصحاب الشمال، فكم من منعم في هذه الحياة الدنيا كان مصيره إلى الجنان! فهذا أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه من أصحاب الأموال الطائلة، وكذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من أصحاب الأموال الطائلة، قيل: كان لـ عثمان ألف جارية! وثم صحابة آخرون آتاهم الله مالاً غزيراً، ومع ذلك أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم غاية الثناء.
فقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:٤٥] ، ضموا مع هذا الترف {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٤٦] ، من العلماء من قال: إن الحنث العظيم هنا المراد به: الشرك، ومن العلماء من قال: إن أصل الحنث هو الذنب، يقول الشخص: حنثت، أي: وقعت في الذنب لكوني أقسمت وخالفت يميني، فالحنث أصلاً هو الذنب، لكن لاقترانه بالعظيم فسر بعض أهل العلم الحنث العظيم بالشرك، ومنهم من قال: هو الذنب العظيم، {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:٤٦] .