وقوله تعالى:(وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، هذا الدعاء ينم عن شيء، وهو أن ما في القلوب إنما هو من الله سبحانه وتعالى، ولا يرفعه إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يثبته إلا الله سبحانه وتعالى، فالمحبة التي في قلبك لشخص هي من الله، والبغض الذي في قلبك لشخص هو من الله سبحانه وتعالى، وإن كان لذلك أسباب، ولكن قد تُفعل الأسباب ويتخلف المطلوب، والله تعالى يقول:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال:٢٤] ، فأنت -يا عبد الله- لا تستطيع التسلط على قلبك الذي بين جنبيك فضلاً عن قلوب غيرك، فالصديق يوسف عليه السلام يقول:{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[يوسف:٣٣] ، وقال صلى الله عليه وسلم -وإن كان فعلاً-: (اللهم! هذا قسمي فيما أملك، ولا تلمني فيما تملك ولا أملك) ، وهو المحبة القلبية.
وقال صلى الله عليه وسلم في شأن خديجة رضي الله تعالى عنها لما كان يكثر من ذكرها، وتغار أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها:(إني قد رزقت حبها) ، والذي رزقه حبها هو الله سبحانه وتعالى.
فالأشياء التي في القلوب من محبة وبغض، كل ذلك أصله من الله سبحانه وتعالى، لا يثبِته إلا الله، ولا ينزعه إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هذا قوله تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}[الحجرات:٧] .
فأهل الإيمان لما فطِنوا لهذه المسألة طلبوا من الله سبحانه وتعالى أن يظهر لهم قلوبهم؛ إذ هو القادر على ذلك، ولا أحد يقدر على هذا إلا هو سبحانه وتعالى، فقالوا:(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، ولا يليق أن يكون في قلب المؤمن غلٌ على أخيه المؤمن، ولكن من ناحية تواجده قد يتواجد، والله يقول في شأن أهل الإيمان يوم القيامة:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الحجر:٤٧] .
وقد أخذ بعض العلماء رحمهم الله تعالى من هذه الآية مشروعية الدعاء للنفس قبل الغير؛ إذ هم قالوا:(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا) فدعوا لأنفسهم ثم لإخوانهم.