[إعراض المنافقين عن التحاكم إلى شرع رب العالمين]
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: يقول الله سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:٢٨٥] ، فهذا دليل على أن أهل الإيمان قالوا: سمعنا وأطعنا، وقد قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:٢٨٥] ) ، لكن المراد بالقائلين هنا في هذه الآية: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:٤٧] : هم أهل النفاق لما أفاده ختام الآية، فختام الآية بينت أن المراد بالقائلين هم أهل النفاق.
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:٤٧] أطعنا الله وأطعنا الرسول، {ثُمَّ يَتَوَلَّى} [النور:٤٧] أي: يعرض، {فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:٤٧] فإن المعرضين ليسوا بمؤمنين.
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور:٤٨] إذا حلت بهم نازلة، فقيل لهم: هلم نتحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهلم نتحاكم إلى الشرع، {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:٤٨] ، كما تقول للناس الآن: هيا -يا معشر الناس- نتحاكم إلى كتاب الله، ونتحاكم إلى سنة رسول الله، فيأبون عليك ذلك أشد الإباء، ويتحاكمون إلى قوانين كفرية جاءتهم من بلاد اليونان، وجاءتهم من بلاد الفرنجة، ومن بلاد الكفار، فهذا شأن أهل النفاق، بألسنتهم يقولون: آمنا بالله وبالرسول، بألسنتهم يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فإذا قيل لهم: هلم نتحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فريق منهم معرضون.
وشأنهم ذكر أيضاً في سورة النساء قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:٦٠-٦١] ، فهذا شأن أهل النفاق، شأنهم الإعراض عن التحاكم إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:٤٨] ، لماذا لم يثن الضمير المفرد هنا (ليحكم) ، ولم يقل (ليحكما) ؟ ذلك لأن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هو حكم الله سبحانه وتعالى، فهو حكم واحد إذاً، كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة:٦٢] ، ولم يقل: (أحق أن يرضوهما) ؛ فإن رضا رسول الله من رضا الله سبحانه وتعالى، وطاعة رسول الله من طاعة الله عز وجل.
{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:٤٩] يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم طائعين، وهذا شأن كثير من أهل النفاق الآن، فهم في الأصل لا يتحاكمون إلى الكتاب ولا إلى السنة، لكن إن أرادوا تشريعاً جديداً أو شيئاً جديداً ووجدوا لهم متنفساً في الكتاب والسنة طفق علماؤهم يرفعون الآيات ويرفعون الرايات! فمثلاً: عندما تصالحوا مع اليهود إذا بالأيادي ترفع: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال:٦١] ، فإذا وجدوا أي شيء من الكتاب والسنة يشهد لأفعالهم تمسكوا به مع بعدهم عن كتاب الله جملة وتفصيلاً.
قال سبحانه: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} أي: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم فيه، ((مُذْعِنِينَ)) أي: طائعين خاضعين.
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [النور:٥٠] ، ما الحامل لهم على الإعراض عن التحاكم إلى الله ورسوله؟ هل هو مرض في قلوبهم؟ ((أَفِي)) الهمزة الاستفهامية هنا المراد منها: التوبيخ.
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} [النور:٥٠] أي: هل شكوا.
{أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:٥٠] أي: خافوا أن يظلمهم الله أو يظلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا كان ذلك فالله ورسوله لا يظلمان الناس {بََلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:٥٠] .
ومن العلماء من قال: إن (أم) في قوله تعالى: {أَمِ ارْتَابُوا} بمعنى: بل، فعلى هذا يكون السياق تأويله كالتالي: أفي قلوبهم مرض: شك وكفر ونفاق، بل ارتابوا، بل يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، وتكون بل بمعنى الواو، {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} الارتياب هو: الشك، {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ} أي: يظلم، {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:٥٠] .