للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (أو يذكر فتنفعه الذكرى.]

{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ} [عبس:٣-٤] والتذكرة: الاتعاظ والاعتبار، {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:٤] .

{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:٥] أي: من استغنى عن الدخول في الإسلام بأمواله وأولاده وجاهه وسلطانه وثرائه، أما من استغنى بهذه الأشياء عن الدخول في الإسلام، {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:٦] أي: تتعرض له رجاء أن يسلم.

{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:٥-٧] يعني: ليس عليك إثم إذا تولى وأعرض، {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:٧] يعني: ما عليك ضرر من عدم تزكيته لنفسه، إنما عليك فقط البلاغ كما قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:٩٩] ، وكما قال سبحانه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية:٢١-٣٣] الآيات.

فيقول سبحانه: {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:٧-١٠] .

(أما من جاءك يسعى) : يجتهد في المجيء إليك وفي مقابلتك، وهو خائف وجل من الله سبحانه: {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:١٠] أي: تنشغل عنه.

{كَلَّا} [عبس:١١] ليس التصرف كما تصرفت يا رسول الله! ليس هذا هو التصرف، فكلمة: (كلا) تحمل معنى النفي لما تقدم مع الردع والزجر، هذا في حق البشر، كلمة: (كلا) تنفي الكلام المتقدم أو المعاني المتقدمة أو التصرفات المتقدمة مع تضمنها للزجر والردع.

فليس الأمر كما تصرفت يا محمد! لكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للمعاني شأن آخر.

أرشدت الآيات إلى أنه ينبغي الإقبال على المقبلين على الله وإن كانوا فقراء، وفي هذا نزل قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:٥٢-٥٤] .

وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: فيّ نزلت هذه الآيات: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:٥٢] : أنا وابن مسعود وبلال ورجلين من قريش لم يسمهما، نزلت هذه الآيات: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:٥٢] في ستة: جاء المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: يا محمد! اطرد هؤلاء عنك، لا يجترئون علينا، فكيف نجلس نحن وهؤلاء أمامك؟ فإننا إذا جلسنا أمامك تجرئوا علينا، فاطردهم لعلنا نفكر في الدخول في الإسلام، فنزل قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:٥٢] ، وقوله تعالى أيضاً: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:٢٨] .

ففي هذه الآيات تأديب للدعاة إلى الله، صحيح أننا أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، لكن مع إنزال الناس منازلهم لا نضيع حق الفقراء وحق الضعفاء أمام المناصب الزائلة، والوجاهات التي ستزول وتفنى، فكل له حق يؤدى إليه.

في صحيح مسلم أن أبا سفيان مر على ملأ فيهم بلال وصهيب وعمار وسلمان، فلما رأوه -وكان ذلك عام الفتح- يمشي في الناس، وكان قبل ذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها، ما زال هذا الرجل يمشي على وجه الأرض؟ فقال أبو بكر: أتقولون هذا لسيد قريش؟ ثم انطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بالذي كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أغضبتهم يا أبا بكر؟ إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك عز وجل، فرجع أبو بكر وقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: غفر الله لك يا أبا بكر) .

فلا ينبغي أبداً أن تبتعد عن الفقراء المقبلين على الله، فإن الله سبحانه وتعالى عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك.

قوله تعالى: {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:٢] أي: بمجيء الأعمى، إن قال قائل: كيف قال الله سبحانه وتعالى: {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:٢] ووصفه بالعمى، وهو سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:١١] ؟ فالإجابة على هذا من وجهين: الوجه الأول: أن الله سبحانه وتعالى ذكره بالأعمى لبيان عذره في مقاطعته للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أنه صحيح أنه جاء وقاطعك يا محمد! وأنت تدعو القوم إلى الإسلام، ولكن معه عذره، فهو أعمى، وكما قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:٦١] فليس على الأعمى حرج فيما لا يدرك إلا بالبصر، هذا وجه.

والوجه الثاني: أن الشخص إذا عرف بصفة من الصفات، واشتهر بها في الناس ولم يكن يتضايق من ذكره بها فلا بأس أن يدعى بها، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الظهر ركعتين وانصرف بعد الركعتين قال رجل في يديه طول: (يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لا هذا ولا ذاك، قال: بل قد حدث شيء من ذلك يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أحقاً ما يقول ذو اليدين؟!) فلقبه النبي عليه الصلاة والسلام بـ ذي اليدين لطول في يديه.

وقد درج على ذلك السلف، فمن اشتهر بلقب يكره عند عموم الناس، ولم يتبرم من دعوته به، نادوه به، وكلكم يعرف الأعمش؛ فـ الأعمش هو سليمان بن مهران وكان في عينيه عمش، وكان دميم الخلقة، وكان يقول: لو كنت بقالاً ما اشترى مني أحد، ومع ذلك لم يكن يتبرم من هذه الصفة، فكان الناس ينادونه بـ الأعمش دوماً.

كذلك الأعرج، وكذلك المقبري؛ لأن بيته كان قريباً من المقابر، وكذلك ابن دقيق العيد لقب بـ ابن دقيق العيد لشدة بياضه، وكذلك الدراوردي كان من بلاد إذا طرق أحدهم طارق يقول: اندر، يعني: ادخل، فلما ذهب إلى المدينة وأقام بها كانوا إذا جاءوا عليه قال لهم: اندروا اندروا، يعني: ادخلوا ادخلوا، فلقب بـ الاندراوردي ثم حذفت النون تخفيفاً فقيل: الدراوردي إلى غير ذلك.

فالشخص إذا اشتهر بلقب إن كان هذا اللقب مكروهاً في الناس لكن تعارفوا عليه به، وهو لم يتضايق منه جاز لهم أن يدعوه به، وهذا هو الوجه الثاني، والله أعلم.

من العلماء كـ القرطبي وقبله الرازي ونقلوه عن بعض علمائهم أنهم خطئوا ابن أم مكتوم في ذهابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ما كان ينبغي أن يذهب إلى الرسول وهو منشغل بدعوة القوم إلى الإسلام، فإن هذا لا يليق، ومنهم من تحامل عليه تحاملاً شديداً، ولكن رب العزة سبحانه وتعالى وصفه بأنه جاء يسعى وهو يخشى، فلا معنى لكلام شخص فيه، بل كل ما قيل فيه مردود، والله سبحانه وتعالى يعلم المسلمين في صورة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.