[نوع الحرج المرفوع عن الأعمى والمريض والأعرج]
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:٦١] ما هو الحرج؟ أسلفنا أن الحرج الإثم، فالحرج والجناح بمعنى واحد، ومن معانيه الإثم، قال سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور:٦١] الآية.
فأفادت الآية أن الحرج المرفوع هو الحرج في الأكل، أما آية الفتح فالحرج المرفوع فيها هو الحرج في التخلف عن الجهاد، وهذه الآية الكريمة سبب نزولها هو ما أخرجه البزار في الزوائد: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يخرجون للغزو، ويتخلف المرضى وذوي العاهات، فيعطي الغزاة مفاتيح بيوتهم لهؤلاء الزمنى والمرضى الذين بقوا، ويرخصون لهم في الأكل من البيوت، فيتحرج هؤلاء الزمنى والمرضى من الأكل من البيوت، ويقولون: لعلهم أعطونا مفاتيح بيوتهم وأذنوا لنا في الأكل من البيوت عن غير طيب نفس، فيتحرجون من الأكل، فأنزل الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور:٦١] الآيات.
فقال بعض العلماء: إن الحرج الموضوع هو الحرج في الأكل، ومنهم من قال: إن الأعمى كان يذهب إلى بيت السليم المعافى، فيأخذه المعافى ويذهب به إلى بيت أقارب له ليأكل عندهم، فيقول الأعمى: إنما يأخذنا إلى بيت غيره, ويستنكف من الأكل في هذا البيت.
وقال آخرون: إن المبصرين والأصحاء كانوا يتحرجون من الأكل مع العميان، وتحرجهم كان على قسمين: فقسم منهم يتحرج من الأكل مع العميان تقذراً، فإذا مد الأعمى يده إلى لقمة قد لا يضبط يده ويضعها في وسط الطعام، أو تتلوث يده بالطعام فيتقذر الصحيح ويمتعض من الأكل معه.
وقسم كانوا يتحرجون من الأكل مع العميان ليس للسبب المذكور، إنما يقولون في أنفسهم: قد نأكل مع العميان فتمتد أيدينا إلى طعام أفضل من الطعام الذي يأكله الأعمى لأنه لا يرى، فيمتنعون عن الأكل معهم تورعاً.
فهناك طائفة تمتنع تورعاً، وطائفة تمتنع تقذراً، فهذا قول في الآية أن الحرج المرفوع في الطعام.
ومن العلماء من قال: إن الحرج المرفوع عن الأعمى في الشيء الذي يفعله المبصر ولا يستطيعه الأعمى، إذا كان هناك أي شيء يُفعل بناءً على الرؤية بالنظر وتركه الأعمى، فالأعمى معذور فيه ولا يؤاخذ، وإذا كان هناك أي شيء يفعله صحيح الرجلين فالحرج مرفوع عن الأعرج في كل شيء يفعله صحيح الرجلين.
فمثلاً: صحيح الرجلين يصلي وهو قائم، الأعرج لا يستطيع ذلك فيصلي وهو جالس.
صحيح الرجلين يجاهد، الأعرج رجله تعوقه عن الجهاد فيرتفع عنه الحرج في الجهاد، فهذا قول أيضاً في الباب.
وكذلك المريض في كل شيء يعوقه المرض ويخلفه عنه؛ لا يؤاخذ فيه.
إذاً: حاصل الأقوال في الحرج المرفوع عن الأعمى والأعرج والمريض: أنه في الطعام، وأُذن لهم أن يأكلوا مع الناس، وأُذن للناس أن يأكلوا معهم، ورفع الحرج أيضاً في كل ما يتخلفون عنه بسبب العلة التي بهم.
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:٦١] فعلى ذلك لا يؤاخذ العميان كما يؤاخذ أصحاب البصر.
{لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور:٦١] وهذه الآية من آيات رفع الحرج الواردة في كتاب الله.