وهنا يرد سؤالان: السؤال الأول: كيف سأل يوسف عليه السلام الإمارة ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام يقول: (إنا لا نولي هذا الأمر أحداً سأله أو حرص عليه) ، ويقول:(يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة، فإنك إن سألتها وكلت إليها، وإن أعطيتها بغير مسألة أعنت عليها) ، فكيف إذاً يسأل شخص الإمارة والنبي نهى عن ذلك؟
و
الجواب
أن المقامات تختلف، فإذا كان المقام مقام ظلم متفش، وبتوليك للإمارة ستصلح ما أفسد غيرك من الناس، وترى في نفسك القدرة على ذلك؛ فلا بأس حينئذ بطلب الإمارة، وقد طلبها يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم.
والسؤال الثاني الذي يطرح نفسه: وهو قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ، فكيف زكى نفسه ورب العزة يقول:{فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم:٣٢] ، ويقول:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[النساء:٤٩] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم -وقد أثنى رجل على رجل فأطرى وبالغ في الثناء-: (ويحك! قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك، قطعت عنق أخيك، إن كان أحدكم لا محالة فاعلاً فليقل: أحسب فلاناً كذا وكذا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً) .
فكيف نوفق بين هذه النصوص وبين سؤال يوسف وبين تزكيته لنفسه؟ والجواب: أن المقام مقام يحتاج إلى بيان القدرات، وهذا من بيان القدرات، وليس من باب التعالي على الخلق، وأيضاً قد زكى النبي قوماً من صحابته كي تحفزهم هذه التزكية على ممارسة العمل ابتغاء وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عثمان:(ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) ، وقال في شأن علي:(لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ثم قال: أين علي؟) ، وقال في شأن أبي بكر:(آمن بي إذ كذبتموني، وأعطاني إذ منعتموني) ، وقال في شأن عمر:(ما لقيك الشطان سالكاً فجاً إلا سك فجاً غير فجك يا ابن الخطاب، إن الشيطان ليفر منك يا عمر) ، وقد قال عثمان يوم أن حوصر -وقد أشرف على الناس-: أناشدكم الله ولا أناشد إلا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام: هل سمعتم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حفر بئر رومة فله الجنة) ، فحفرتها؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أناشدكم الله ولا أناشد إلا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: هل سمعتم النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من جهز جيش العسرة فله الجنة) ، فجهزته؟ فقالوا: اللهم نعم.
فقال: فبم يقتلونني؟ فأظهر بعض مناقبه حتى يدفع هؤلاء الأشرار الذين أرادوا قتله، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فقد قتله الثوار الخوارج لا جزاهم الله خيراً.
إذاً: معشر الإخوة! تجوز التزكية أحياناً بحسب الاحتياج إليها، فقد يكون في التزكية -أحياناً- دفع للهمم وشحذ لها؛ لمواصلة العطاء، أما إذا كان في التزكية قطع للأعناق وتملق وتكلف، فتذم حينئذٍ التزكية، وينبغي أن ننزل الأمور المنزلة اللائقة بها، وهذا هدي نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وجاء عدي بن حاتم الطائي وهو معروف بكرمه وببذله للإسلام وبعطائه، وقد ارتد قومه بعد وفاة الرسول وثبت هو، وحارب قومه إلى أن يسلموا، فجاء إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوجد أمير المؤمنين عمر معرضاً عنه، فناداه: يا أمير المؤمنين! أما تعرفني؟ فقال عمر: أعرفك وكيف لا أعرفك؟ أنت الذي أسلمت وثبت إذ كفروا، أنت الذي أعطيت إذ منعوا، أنت عدي بن حاتم، فقال: إذاً لا أبالي يا أمير المؤمنين! فأحياناً يحتاج الشخص إلى إظهار مناقبه وبيان قدراته لعمل يوكل إليه.