للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حكم الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد

نتحول إلى صورة أخرى من صور الطلاق: وهي طلاق الثلاث في المجلس الواحد، كقول الرجل لزوجته: أنتِ طالق ثلاثاً، أو أنتِ طالق أنتِ طالق أنتِ طالق، أو أنتِ طالق عدد نجوم السماء، أو أنتِ طالق ألف مرة! فجمهور العلماء في هذه المسألة يقولون: تقع عليه ثلاث تطليقات، سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأة قال لها: أنتِ طالق ألف مرة؟ قال: نحسب عليه ثلاثاً، ونترك تسعمائة وسبعة وتسعين، لكن ما هي الأدلة على وقوع هذا الطلاق طلاق الثلاث للمجلس الواحد التي استدل بها الجمهور؟ استدل الجمهور على إيقاع الطلاق الثلاث في المجلس الواحد بأن هذا فعل أمير المؤمنين عمر، وتبعه الصحابة على ذلك، وتبعه الجمهور على ذلك، واستدلوا بقصة عويمر العجلاني لما لاعن امرأته عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكرهما الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟ فأقسم الرجل وأقسمت المرأة، فلما رأى الرجل امرأته قد أقسمت أربعة أيمان بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، طلقها ثلاثاً قبل أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم) ، فقالوا: ها هو طلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، فسكوت الرسول بمنزلة التقرير لطلاق الثلاث.

فهذه حجج الجمهور في هذا الباب، لكنها حجج ضعيفة؛ لأنه قد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (كان طلاق الثلاث في المجلس الواحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يعد واحدة، فلما جاء عمر قال: أرى الناس قد تتابعوا على أمر كانت لهم فيه أناة -يعني: استعجلوا فصار كل واحد يطلق امرأته ثلاثاً أو يطلقها عشراً- فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم عمر) .

فأفاد حديث ابن عباس أن طلاق الثلاث في المجلس الواحد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد طلقة واحدة، وأن الذي أوقعه عليهم ثلاثاًَ هو عمر، وصيغة عمر في حديثه (أرى الناس قد تتابعوا على أمر كانت لهم فيه أناة) تفيد أن عمر فعلها من باب التعزير لهؤلاء المتسرعين في التطليق.

فإذا احتج محتج بأن عمر أوقع الطلاق الثلاث لمن طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد، فقد أجابوا بأن هناك من الأحاديث ما هي وقائع أعيان، ومن الأحاديث ما هي مقعدة لقواعد، وقول ابن عباس: (كان طلاق الثلاث في المجلس الواحد يعد واحدة) هو تقرير لقاعدة سار عليها الناس في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما فعل عويمر فهو فعل خاص، وسكوت الرسول صلى الله عليه وسلم على تطليقه ثلاثاً لا حجة فيه؛ لأن الملاعنة لا تجتمع مع زوجها الذي لاعنها؛ لأنها تحرم عليه على التأبيد؛ ولأن أحدهما ملعون أو مغضوب عليه، فالاستدلال بقصة الملاعنة غير صحيح؛ لأن قصة الملاعنة قصة خاصة في واقعة خاصة، والتفريق بينهما أبدي حتى بدون الطلاق.

هذه إجابة الذين قالوا: إن طلاق الثلاث في المجلس الواحد يعد واحدة، ومنهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقوله هنا موفق لموافقته الدليل الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما الذي يرويه عن زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم إن المعنى اللغوي أيضاً للطلاق يقتضيه، فإذا قال الرجل لامرأته: أنتِ طالق، كأنه كان يمسكها، ثم لو جاء بعد مدة في نفس المجلس وقال: أنتِ طالق فلا معنى للقول الثاني فهي مطلقة ابتداءً، لكن إذا راجعها بضمها إليه وقال لها بعد ذلك: أنتِ طالق، فحينئذٍ تحسب طلقة ثانية.

ثم أيضاً من الأدلة التي قوت هذا المذهب بشدة، قول الله سبحانه وتعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:٢٢٩] فلم يرد أن شخصاً ما طلق ثلاثاً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأوقعها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث تطليقات إلا ما كان من عويمر، وقصته خاصة في الملاعنة، فعلى ذلك يتألق بشدة قول من قال: إن طلاق الثلاث في المجلس الواحد يعد واحدة.

أما الرواية التي فيها: (أن رجلاً طلق ثلاثاً ثم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا كنت تريد أو ماذا قصدت؟) فهي رواية ضعيفة من ناحية الإسناد فلا يستدل بها على المدعى؛ لضعف إسنادها والله سبحانه وتعالى أعلم.

هذا بالنسبة لطلاق الثلاث في المجلس الواحد.