للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حكم إعطاء الطبيب شهادة مرضية لشخص لم يمرض]

السؤال

طبيب يقول: جاءني شخص موظف من الموظفين، وذهب بدون أن يأخذ إجازة من العمل؛ ذهب ليصلح بين قوم كادت تحدث بينهم مقتلة، فاستمرت مدة الإصلاح شهراً بدون أن يأخذ إجازة، ففصل من العمل، فقالوا: لا رجوع له إلى العمل إلا بشهادة مرضية، ونعرف يقيناً -الطبيب يقول:- أنه كان يصلح بين قوم وستحدث بينهم مقتلة والله أصلح به، ورجع بعد شهر، فهل أعطيه شهادة على أنه كان مريضاً أو أتركه يفصل من العمل؟

الجواب

هو سيفصل من العمل، أو يعطى شهادة غير حقيقية، فما رأيك وما فقهك في هذه المسألة؟ أحد الحاضرين: يعطى؛ لأنه ليس له عمل آخر.

أحد الحاضرين: هو ذهب ليصلح بينهم، والصلح خير، فأرى أنه يعطى شهادة مرضية.

الشيخ: الإصلاح محبوب، لكن لا أتكلم عن الإصلاح بل نقول له: جزاك الله خيراً على الإصلاح، الطبيب يسأل ويقول: أعطيه شهادة على أنه كان مريضاً أو أتركه يفصل والله يسهل له؟ أحد الحاضرين: ما دام أنه يجوز الكذب للإصلاح؛ فيجوز أخذ شهادة مرضية؛ وذلك لتعلقها بالإصلاح.

الشيخ: يجوز الكذب للإصلاح بين الناس، هل هناك شخص عنده إجابة ثالثة؟ أحد الحاضرين: الضرورات تبيح المحظورات.

الشيخ: الضرورات تبيح المحظورات، أحسنت، هل هناك إجابة رابعة؟ أحد الحاضرين: يجوز إعطاؤه شهادة مرضية؛ لأنه أخف الضررين.

الشيخ: أخف الضررين، هل هناك إجابة خامسة؟ أحد الحاضرين: لا يجوز إعطاؤه.

الشيخ: أي أن تلك الشهادة باطلة، وينفصل من العمل.

الشيخ: إخوانكم استدلوا بأدلة جزاهم الله خيراً.

الأخ الكريم استدل بفعل الخضر، فإن الخضر خرب السفينة، فهل التخريب هذا جائز والله يقول: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:٢٠٥] ، لكنه خرب، ولماذا خرب؟ قال تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:٧٩] .

وأخوكم الله يبارك فيه استدل بشيء آخر: أن الكذب من أصله للصلح جائز، فمتبوعات، الصلح من الكذب لأخذ شهادة مرضية جائزة؛ وذلك لتتميم الصلح، والرسول عليه الصلاة والسلام رخص في الكذب في الإصلاح.

والأخ الآخر زاد زيادة أخرى وهي: مسألة اختيار أخف الضررين، فلو أن شخصاً أخذ سكيناً وقال لك: سأقتلك إذا لم تدفع ألف جنيه، نقول: ادفع الألف جنيه، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وإضاعة المال) ، ولا يجوز لي أن أدفع الألف جنيه؛ لكن دفعتها خوفاً من القتل.

اليوم قرأت في الأقضية قصة طريفة ذكرت عن أمير المؤمنين علي في القضاء، والقضاء يحتاج إلى ذكاء، فأمير المؤمنين علي اختصم إليه قوم، فقال أحدهم: إنا أعطينا هذا الرجل مبلغاً من المال وقلنا له: تصدق بما أحببت من هذا المال، فالرجل أخذ تسعة أعشار لنفسه وتصدق بعشر.

مثلاً: أعطوه عشرة آلاف جنيه وقالوا له: تصدق بما أحببت من هذا المال، فأخذ العشرة آلاف وتصدق بألف ووضع التسعة آلاف في جيبه واستمتع بها، فذهبوا به إلى أمير المؤمنين علي وقالوا: نحن لا نقبل أن يأخذ التسعة آلاف ويتصدق بألف، ولكننا رضينا أن يأخذ النصف وهي خمسة ويتصدق بخمسة.

فقال أمير المؤمنين علي: قد أنصفوك، أي: أحسنوا معك التصرف.

فقال: لا، يا أمير المؤمنين، هي حقي! لأنهم قالوا: تصدق بما أحببت.

فـ علي رضي الله عنه وجد من الرجل تعنتاً وإصراراً على أن يأخذ المال كله، فقال: اسمع، لك فقط العشر وتأتينا بتسعة أعشار.

قال: كيف تحكم بهذا؟ فقال: هم قالوا لك: تصدق بما أحببت، وأنت أحببت تسعة آلاف، فنأخذ منك التسعة آلاف التي أحببتها، ونترك لك الألف التي لم تحبها.

فكان القضاء فيه نوع من الذكاء، وهذه القصة أوردها ابن القيم رحمه الله في كتابه: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية.

أحد الحاضرين: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات دون ماله فهو شهيد) .

الشيخ: (من مات دون ماله فهو شهيد) أنت حر، هل قلنا لك: إنك تأثم إذا لم تعطه الألف جنيه؟