[تفسير قوله تعالى:(اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة.]
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فهناك من يتكلف لبيان التناسب بين الآيات تكلفاً شديداً، أو يحاول جاهداً أن يأتي بصلة بين كل آية والآية التي سبقتها وبينها وبين التي تليها، حتى جمع بعض أهل العلم كتباً في تناسب الآيات والسور، وقد انتقد هذا المنهج وهذا المبدأ بعض أهل العلم، كـ الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه فتح القدير، وذكر ما حاصله أنه لا يلزم أن تكون هناك صلات بين كل آية والآية التي سبقتها، فأحياناً تكون هناك مناسبات وروابط تربط بين الآية والتي تلتها، وأحياناً لا تكون هناك صلات ولا روابط بين الآية المتأخرة والآية التي تقدمت، فإن وجدت صلة ظاهرة فالحمد لله، وإن لم توجد صلة ظاهرة فالأمر في ذلك واسع، والله أعلم.
ومن العلماء من ذكر هنا وجهاً للربط بين قوله تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ}[الحديد:٢٠] إلى آخر الآية، وبين الآية التي تقدمتها في خاتمتها، وهي قوله تعالى:{وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}[الحديد:١٩] ، فقال: لما كانت الدنيا تشغل أهلها عن الجهاد في سبيل الله وعن مقالات الحق والصدق التي بها يبلغ العبد مرتبة الربانيين؛ إذ العبد يضن بكلمة الحق حرصاً على الدنيا، ويضن بنفسه كذلك حرصاً على الدنيا جاءت الآية الكريمة: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) لكي يصرف العبد عن هذا التقاعس، ولكي يصرف العبد عن هذا الجبن الذي به يمتنع عن الجهاد، وبه يمتنع عن كلمة الحق إذا علم أن الدنيا فانية، وأن متاعها زائل وفان، فقال تعالى:(اعلموا) أي: يا من آثرتم دنياكم على أخراكم، ويا من آثرتم التعويق والتثبيط على الإقدام والبذل والجهاد (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم) أي: تفاخر بأمورها من مال وجاه ومنصب ونحو ذلك.
قوله تعالى:{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}[الحديد:٢٠] الكفار: هم الزراع، وقوله تعالى:(نَبَاتُهُ) أي: النبات الذي نتج بسبب هذا الغيث أعجب الكفار وهم الزراع، وأطلق عليهم الكفار لكونهم يضعون البذرة في الأرض ويغطونها، فهذه التغطية تسمى الكفر، فالكُفر من معانيه التغطية قوله تعالى:(ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا) أي: بعد أن ييبس ترى العود الأخضر قد تحول إلى عود أصفر، وقد اتجه إلى الذبول بعد النضرة والاخضرار، (ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) ، فهذا مثل الحياة الدنيا بصفة عامة، ومثل الحياة الدنيا في الشخص نفسه كذلك، فكل شخص تنسحب عليه هذه الآية، وينطبق عليه هذا المتن، وتصديق ذلك في قول الله جل ذكره:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}[الروم:٥٤] ، فهذه الآية توضح آية الحديد التي نحن بصددها، وكذلك آية الحج في هذا المعنى أيضاً:{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}[الحج:٥] ، وكذلك قال سبحانه في آية الحج:{وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الحج:٥-٦] .