للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وألوا استقاموا على الطريقة.]

قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:١٦] ما المراد بالطريقة؟ للعلماء في تفسير الطريقة قولان مشهوران: القول الأول: أن المراد بالطريقة: طريقة الاستقامة، فلو استقام عليها الخلق لأسقاهم الله سبحانه وتعالى ماء غدقاً، كما قال سبحانه {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:٩٦] ، وكما قال الله سبحانه {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:٦٦] ، وكما قال نوح فيما حكى الله عنه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح:١٠-١١] .

القول الثاني: أن المراد بالطريقة: طريقة الغواية والضلال، فالمعنى: لو استمروا في غيهم، وفي ضلالهم؛ لأسقيناهم ماء غدقاً لنفتهم في هذا الماء، ولنفتنهم في هذا الرزق، كما قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:٤٤] ، واستظهر لهذا التأويل بقوله تعالى في الآية التي تليها: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن:١٧] ، فالقولان مشهوران وواردان في تفسير الآية الكريمة، وكل قول له وجه ودليل يشهد له من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم في الرزق الذي رزقناهم إياه، والرزق الذي رزق الله العبد إنما هو فتنة وابتلاء، وسيُسئل عنه العبد، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام (وأصحاب الجد محبوسون) أي: للتحقيق معهم، فيسئلون: من أين اكتسبوا هذه الأموال؟ وفيم أنفقوها؟ ولذلك كره بعض العلماء كثرة المال لأنفسهم، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنّعه الله بما آتاه) ، بينما ذهب آخرون إلى أن الحال والمقام يختلف من شخص لآخر، فإذا كان الشخص قوياً في دينه، رشيداً في فهمه، ومسدداً في فعله، فكما قال الرسول: (نعم المال الصالح للعبد الصالح) وقال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه عل هلكته في الحق) ، واستدل في هذا الباب بحديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور) إلى آخر الحديث، وفيه: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ، فالمقام يختلف من شخص إلى شخص آخر.

لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي: لنختبرهم فيما رزقناهم، كما قال الله: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:٤٨] ، وكما قال سليمان عليه السلام لما رأى العرش مستقراً عنده: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:٤٠] ، وكما أسلفنا فليست كثرة المال دليلاً على الخير، وعلى رضا الله على عبده، وليست هي المقياس في الدنيا، فـ قارون قد علمتم حاله، ونبينا محمد لم يؤت من الدنيا إلا القليل، وهو أرفع درجة من سليمان الذي سخرت له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب.