للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وما صاحبكم بمجنون.]

ثم جاء الكلام على صاحبنا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:٢٢] : يا قرشيون! يا من اتهمتم نبيكم أنه مجنون! {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} بل قد نزل بالوحي أمين على نبي عاقل بل هو أعقل الخلق عليه الصلاة والسلام، {وَمَا صَاحِبُكُمْ} انتقل الخطاب إلى المشركين، وصاحبهم هو: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} كما ادعيتم.

{وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:٢٣] من رأى مَن؟ النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه الصلاة والسلام.

وما معنى (الأفق) ؟ وما معنى (المبين) ؟ (الأفق) هو: الاتجاه المستعرض المرتفع نحو مشرق الشمس.

و (المبين) هو: المظهِر والموضح للأشياء، فالمكان المرتفع المستعرض اتجاه شروق الشمس هو: الأفق، فـ (الأفق المبين) أي: الأفق المظهِر والموضِّح للأشياء.

فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح، ورآه بالأفق في وقت تبين فيه الأشياء وتتضح فيه الأشياء؛ لأن هذا شأن أهل الخير، لا يأتيهم الخير في الظلام كأهل الشر والشياطين، نحو ما أورده بعض العلماء عن مسيلمة أنه سئل: كيف يأتيك الوحي -وهو وحي الشياطين-؟ قال: في ليلة ظلماء شديدة الظلمة؛ لأن الشياطين في الظلام تنتشر وتمارس كل ما تخفيه من تلبيس، ولهذا يستعيذ أهل الإسلام من شر الغاسق إذا وقب وهو: الليل إذا دخل أو القمر إذا دخل، والقمر من علامات دخول الليل؛ لأنه في الليل تبدأ الشياطين بأعمالها، ويبدأ شياطين الإنس وشياطين الجن في الانتشار ليلاً؛ ولذلك نادراً أن تجد أهل الشر والفساد يرتكبون حادثةً في الضحى؛ إنما الجرائم والسطو واللصوصية والاغتيالات والقتل أغلبه يكون في الليل، ففي الضحى الشياطين تكاد تبتعد؛ لأن عملها في الظلام، ورب العزة قال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:١] والفلق المراد به: الصبح، {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:٢-٣] لأن وقت الغاسق إذا وقب تبدأ الشياطين بالانتشار كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ) ، ومن ثَمَّ لما قال فرعون لموسى: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوىً * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه:٥٨-٥٩] لأنه ستكون الأمور فيه واضحةً، ليس فيها تلبيسات ولا فيها شعوذة ولا فيها سحر ولا أي شيء، ولذلك أي ساحر وأي دجال يبدأ نشاطه في الليل، فتذهب -مثلاً- إلى المشعوذين الذين في كفر الأمير عبد الله بن سلام وهو مكان مظلم، ويأتون ببعض الخيالات والأوهام ليخدعوك بها، فيقول لك: انظر! فرس سيدنا علي يجري، وسيدنا علي راكب عليه! ويخدعون الناس السذج والعياذ بالله.

فرب العزة يقول: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} أي: رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه الصلاة والسلام بالأفق المظهِر للأشياء الموضِّح لها، فهو رأى رؤيا لا التباس فيها، ولا شك فيها، ولا يمكن لأحد أن يتشكل بصورته أو يقول: لعلك كنت في خيال، أو رأيت عفريتاً، أو كذا وكذا، لا أبداً، إنما {رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} ، رآه رؤية واضحة صلى الله عليه وسلم.