للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (والمرسلات عرفاً.)

باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:١] .

سورة المرسلات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار في منىً، (كان النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في غار في منىً فنزلت عليه سورة المرسلات، فهو يتلوها رطبة ويتلاقها الصحابة من فيه، فوثبت عليهم حية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوها.

فابتدروها ليقتلوها فهربت منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقيت شركم كما وقيتكم شرها) ، فهذا دليل على أنها نزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام بمنىً، ومنى كما هو معلوم بجوار مكة، وتعد من الحرم.

يقول تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:١-٤] .

من أهل العلم من أجرى تأويلها على أنها كلها تنصب على شيء واحد، وما هو هذا الشيء الواحد؟ القول الأول: إنها الرياح، فحمل هذا القائل المرسلات على أنها الرياح، والعاصفات على أنها الرياح، والناشرات على أنها الرياح، والفارقات على أنها الرياح، لكن كل فقرة فيها وصف للريح غير الذي في الفقرة الأخرى.

القول الثاني: إن هذه الأشياء وصف لشيء واحد لكنها الملائكة، ففسر المرسلات بأنها الملائكة، وفسر العاصفات بأنها الملائكة، وفسر الناشرات بأنها الملائكة، وفسر الفارقات بأنها أيضاً الملائكة.

القول الثالث: ومن العلماء من أدخل شيئاً من التأويل الأول في التأويل الثاني، أو شيئاً من التأويل الثاني في التأويل الأول، ففسر مثلاً بعض فقرات هذه الآيات بالرياح، وفقرات أخرى منها بالملائكة أو العكس.

والجمهور من أهل التفسير يفسرون هذه الأشياء المذكورة بالرياح ما عدا قوله: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} [المرسلات:٥] ، وكذلك قوله: {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:٤] .

قال: والشاهد على تأويل المرسلات بأنها الرياح قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف:٥٧] ، فقوله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) يدل على أن المرسلات هي الرياح.

{وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:١] ، العرف هنا معناه: المتتابعة، كعرف الفرس، أي: الشعر الذي خلف رأسه تجده شعرة بعد شعرة، فقال: إن معنى عرفاً، أي: متتابعة، تأتي ريح بعدها ريح بلطف وهدوء.

{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:٢] رياح لكنها رياح شديدة تعصف.

فقوله: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:١] الواو واو القسم، أقسم الله بالرياح التي تأتي هادئة ومتتابعة، موجة من الريح تتلوها موجة أخرى، كالشعر الذي في مقدمة الفرس، فأقسم الله سبحانه وتعالى بالرياح المتتابعة الهادئة، ثم أتبعها بالعاصفات، وهي الرياح الشديدة، {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:٢] أي: شديدة الهبوب العاتية، التي تعصف بالأشياء.

{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:٢] * {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} [المرسلات:٣] فالرياح تنشر الأمطار، وتوزعها على الأماكن التي أمرت بإنزال المطر فيها.

{فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:٤] قال بعض العلماء إنها الرياح، وحمل قوله تعالى: (الْفَارِقَاتِ فَرْقًا) على أنها بعد هبوبها تفرق بين المسلم وغير المسلم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم -لما كان مع أصحابه- على إثر سماء بالحديبية (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: إن الله سبحانه وتعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فهذا مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا، فهذا كافر بي ومؤمن بالكوكب) .

فالشاهد أن الرياح لما أسقطت الأمطار تسببت في التفريق بين الناس، فظهر منهم المؤمن وظهر منهم الكافر، هذا على هذا التأويل الأول الذي حمل كل المذكورات على أنها الرياح.

أما التأويل الثاني: ألا وهو تأويل المرسلات بأنها الملائكة قالوا: إن المرسلات هي الملائكة أرسلت بالمعروف.

{فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات:٢] قالوا: الملائكة تعصف بأرواح الكفار.

{وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} [المرسلات:٣] الملائكة تنشر العلم وتنشر الحكمة وتنشر الخير بين العباد.

{فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات:٤] الملائكة تنزل بالوحي الذي يفرق به بين أهل الحق وبين أهل الباطل، وتنزل بالوحي الذي يفرق بين الحق والباطل، هذا على تأويل من قال: إنها الملائكة.

والجمهور من المفسرين على أن المرسلات الرياح، فالعاصفات الرياح، والفارقات الملائكة والناشرات الرياح.

وثم تأويل آخر أن المرسلات الرسل، لكنه تأويل يكاد يكون شاذاً ومنبوذاً، ومن العلماء من يقول بالتعميم في مثل هذه المواطن، كما قال فريق منهم بالتعميم في قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات:١-٢] .

فقال فريق: لم يرد دليل من الكتاب ولا من السنة يحسم لنا المراد بالمرسلات فالقول بالتعميم أولى من القول بالقصر على بعض الأشياء وبعض المعاني دون بعض.

والقول بالتعميم قد يكون له من الوجاهة وجه قوي، لكن المعكر عليه بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين، فإذا كانت لغة العرب تتحمل وجهاً من الوجوه في موطن من المواطن، فلا يعدل عن هذا الموطن إلى شيء آخر، ونسير مع لغة العرب، فإذا قالت العرب مثلاً: العاصفات هي الريح التي تعصف فقولهم أولي، وصحيح أن الملائكة تعصف بأرواح الكفار، لكن هذا المعنى غير وارد بكثرة على أفهام العرب، فإذا خوطبوا بشيء عاصف، عرفوا معنى العاصف ونسبوا العصف إلى الريح إذ هي التي تعصف، ومن خصائصها الكبرى العصف، {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء:٨١] .

وأيضاً القول بالتخصيص ينبني على المشهور الدارج في لغة العرب، وهذا أيضاً وجه في غاية القوة.

قال الله سبحانه وتعالى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} [المرسلات:٥] والجماهير على أن الملقيات ذكراً هي الملائكة تلقي الذكر على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتنزل بالوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والذكر هو القرآن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩] .

وفي الآية دليل على أن الإلقاء يطلق ويراد به أحياناً الإنزال.