[الوصية الثانية: الإحسان إلى الوالدين]
قال الله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:٣٦] ، أي: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً، وتقدم أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين يأتي في كثير من الآيات والأحاديث عقب الأمر بعبادة الله، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣] ، وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام:١٥١] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم يا رسول الله؟ قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أي الأعمال أحب إلى الله يا رسول الله؟ قال: الصلاة على وقتها، ثم بر الوالدين) .
فالأمر بالإحسان إلى الوالدين تظافرت عليه نصوص الكتاب والسنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لما صعد إلى المنبر: (رغم أنف امرئ، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: رجل أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة) ، ولا يخفى عليكم أن عيسى عليه الصلاة والسلام من أول الكلمات التي تكلم بها في المهد أن قال: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:٣٢] بعد قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:٣٠-٣٢] ، وقال سبحانه في شأن يحيى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:١٤] ، ولا يخفى عليكم أن أحد الثلاثة الذين انسدت عليهم الصخرة في الغار وتوسل كل واحد منهم إلى الله بصالح عمله فقال أحدهم: (اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت أذهب وأحلب لهما غبوقهما، وإنه نأى بي المرعى يوماً فرجعت إليهما وقد ناما والحلاب في يدي -القدر الذي به اللبن- فكرهت أن أوقظهما والصبية يتضاغون عند قدمي من الجوع -يعني: الصبية يتلوون من الجوع عند رجله وهو لا يريد أن يوقظ أبويه ويزعجهما من النوم ويكره أن يسقي الأولاد قبلهما فبقي كذلك طول الليل حتى طلع الفجر- اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه) ففرج الله سبحانه وتعالى عنهم بعض ما هم فيه.
ولا يخفى عليكم أيضاً أن أم جريج استجيبت دعوتها على ولدها إذ نادته وهو يصلي فلم يجبها وما منعه من إجابتها إلا الصلاة؛ إذ نادته فقالت: يا جريج! فقال: يا رب أمي وصلاتي، ثم أتته في اليوم الثاني والثالث وقالت: يا جريج! قال: يا رب أمي وصلاتي، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات -أي: الزواني عياذاً بالله- فما مات حتى جاءته امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل، اتفق معها بنو إسرائيل على أن تفتن جريجاً، فقالت لهم: إن شئتم فتنت جريجاً، قالوا لها: افعلي، فذهبت تطلب منه الزنا فأبى، فذهبت إلى راع فمكنته من نفسها فزنى بها وحملت وولدت، وجاءت قومها بالولد، فقالوا لها: ممن هذا؟ قالت: من جريج، فأتوا إلى صومعته وأهانوه وضربوه ودمروا صومعته، فاستجيبت دعوة أمه إلا أن الله أكرمه ونجّاه؛ لأنه كان في صلاة، فقال: أين الغلام؟ فأتي به، فقال: يا بابوس! من أبوك؟ قال: أبي هو الراعي، فأكرموه وبنوا له صومعته، وقالوا: إن شئت أن نبنيها من ذهب بنيناها، فقال: لا، ولكن من طين كما كانت.
الشاهد: أن دعوة أمه استجيبت؛ لذا جاء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في هذه الآية، وفي قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:٢٣] ، فإذا كان هناك رجل يؤذي والديه: يضربهما أو يسبهما، فهو أخطر وأجرم من رجل يسرق أموال الناس، فالعاق أشد جرماً من هذا السارق؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور) .
فالذي يؤذي والديه أشد إثماً وجرماً من اللص الذي جلس يقطع الطريق ويسرق الناس، وليس معنى هذا تسهيل السرقة ولكن بيان جرم العقوق.
أضف إلى ما سبق أن العلماء بوبوا بباب: إذا طلب الأب من ولده أن يطلق زوجته هل يطلقها؟ في المسألة تفصيل: ففي قصة عمر قال عبد الله بن عمر: (كانت تحتي امرأة وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها، فأبيت فذهب إلى رسول الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها، فطلقتها) وجاء الخليل إبراهيم إلى زوجة ابنه إسماعيل فلما رأى منها عدم شكر نعم الله عليها، ورأى منها تسخطاً، قال لها: إذا جاء إسماعيل فأخبريه أن شيخاً كبيراً جاء إليه وهو يقرؤه السلام، ويقول له: غير عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل وأخبرته، قال: هذا الشيخ أبي، وأنت عتبة الباب، وأنت طالق، الحقي بأهلك.
فأخذ منها بعض الفقهاء: أن الأب إذا أمر ولده بتطليق زوجته فطلقها، لكن محل ذلك إذا كان الأب صالحاً، والباعث له على التطليق أمر شرعي، أما إذا كان الأب فاجراً أو فاسقاً ويأمر بطلاق المرأة لدينها؛ فرب العزة يقول: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:٢٨] ، وكذلك الأم؛ إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها لما سئل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ، فكذلك الحكم بالنسبة للأم.
قال الله جل ذكره: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [النساء:٣٦] فهذه وصايا، ولأن البشر يخطئون ويصيبون لم نجد في الوصايا العشر للإمام حسن البنا الأمر بالإحسان إلى الوالدين مثلاً، فدل ذلك على أنه لا تعتمد إلا وصايا ربنا ووصايا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن شاء أن يوصي فليوص، لكن لا تكون وصاياه شرعاً متبعاً عاماً لكل الناس يتعبد بها ويتغنى بها في التمثيليات والمسرحيات والمجالس والملاهي؛ فكل بشر يخطئ ويصيب.
وقد أراد الخليفة العباسي رحمه الله أن يجمع الناس على موطأ الإمام مالك، ويلزمهم بذلك، من هو الإمام مالك؟ مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، لكن من شدة إنصاف الإمام مالك وحرصه قال: يا أمير المؤمنين! إن الناس قد جمعوا أشياء لم نقف عليها، ووقفوا على أمور لم نقف عليها، فدع الناس ولا تلزمهم باتباع الموطأ ولا غير الموطأ.
وكانت كلمة موفقة منه رحمه الله تعالى.