للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر)]

قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:٩] أي: كما كنت يتيماً فآواك الله، كذلك فلتقابل هذه النعمة بإحسان، والإحسان يجازى بالإحسان، كما أن الله آواك وكنت يتيماً، فكذلك أنت بالنسبة لليتيم لا تقهر اليتيم، وكما أن الله أغناك فقد كنت فقيراً، فالسائل أيضاً لا تنهره، فيؤخذ من هذا منهج الدعوة إلى الله ألا وهو: هل يذكر الشخص بما كان فيه من حال قبل أن يصل إلى منصب أو يصل إلى حالة من الثراء حتى يفعل الخير أو أن هذا التذكير غير مرغوب فيه؟

السؤال

لو ذهبت أدعو رجلاً، هل أذكره بما كان فيه قبل أن يصل إلى هذه الحال، ومن ثم أطلب منه طلبي أو لا؟ لكل وجهة، لكن أحياناً يستحب تذكير الشخص بالحال التي كان فيها قبل أن يصل إلى هذا الحال التي هو عليها، والدليل على ذلك هذه الآيات: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:٦-٨] فكذلك {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:٩] فأنت كنت يتيماً، والسائل أيضاً لا تنهره فأنت كنت أيضاً فقيراً، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:١١] ، على ما سيأتي تأويله.

ويستدل لهذا المبدأ أيضاً بحديث الثلاثة: الأبرص والأقرع والأعمى، فالأبرص والأقرع والأعمى لما جاءهم الملك يسألهم: ماذا تريدون؟ كل طلب مطلباً، فقال أحدهم: أريد غنماً تملأ هذا الوادي، وأريد شعراً حسناً؛ فقد تقذرني الناس، فأعطاه الله الشعر الحسن، وأعطاه من المال ما شاء، والآخر أزال الله عنه البرص الذي كان يتأذى به أمام الناس، وأعطاه الله من البقر، والثالث أعطاه الله ما شاء من الإبل وأزال عنه العمى، الحديث إلى آخره.

الشاهد: أن الملك لما جاء يسألهم مرة أخرى، قال لهم طالباً: لا بلاغ لي إلا بالله ثم بك، شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: إن الحقوق كثيرة، وجلس يتعلل بعلل، فحينئذ ذكره بالحال التي كان فيها: كأني بك كنت فقيراً فأغناك الله، وكنت أبرصاً فشفاك الله، كأني أنظر إليك، قال: لقد ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فما نفعته الذكرى، فقال: إن كنت كما تقول؛ فردك الله إلى ما كنت فيه، الحديث.

فهل يستحب تذكير الشخص بالذي كان فيه أو يكره؟ هذه المسألة ليس فيها نص صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر صريح بفعل معين، إنما هي مجرد تصرفات صدرت، فإن رأيت أن تذكير الشخص بما كان فيه من فقر أو غنى أو مرض ينتفع به الشخص، فذكره حينئذ وتوكل على الله؛ لأن التذكير يهيج فيه شكر نعم الله، فيحمله هذا الشكر على فعل الإحسان، وإن كنت ترى أن الشخص الذي أمامك إذا ذُكر بالحالة التي كان فيها فسينفعل وسيغضب وسيثور؛ فحينئذ يترك التذكير، كقولك للشخص: اتق الله، فكلمة (اتق الله) كلمة طيبة، فيها غاية الحسن، لكن أحياناً لا تقال، فمثلاً: الله قال لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:١] ، وتداول الصحابة فيما بينهم كلمة: (اتق الله) ، لكن أحياناً يكون لها موطن تكره فيه، لا تكره لأنها كلمة: (اتق الله) ، لكن كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان يقسم القسمة بين أصحابه وجاءه رجل فقال: يا محمد! اتق الله واعدل في القسمة.

صحيح كلمة (اتق الله) قوية، لكن ليس هذا هو موطن قولها، فإنك تضمنها اتهاماً للشخص، فقال الرسول: (ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟!) .

فالكلمة الطيبة إن ضمنت معنىً يحمل اتهاماً فحينئذ تذم، لكن لا تذم لأنها هي الكلمة ولكن لما تضمنته الكلمة من معاني أخر، فمثلاً: شخص يسألك عن شخص آخر، فقلت له: الله يهديه، "الله يهديه" كلمة طيبة جداً، وفي غاية الحسن، لكن (الله يهديه) توحي بها إلى أنه ضال وزائغ، وتسأل الله له الهداية، فحينئذ تكون نوعاً من أنواع الاغتياب واللمز، والله أعلم.

فالشاهد: هل يشرع تذكير الشخص بالحال التي كان فيها قبل أن أطلب منه ما أطلب؟ هذا أمر مرده إلى حال الذي أمامي، إن رأيت أن الشخص ينتفع بهذه الموعظة قدمتها، وإن رأيت أنه سينفعل إذا ذكر بالذي كان فيه من حال! تركت هذا التذكير؛ لأنه سيكون من باب الإيذاء، والرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن سب الأموات؛ حتى لا يتأتى الأذى إلى الأحياء من ناحية، وأيضاً فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا من عمل.