وهذا ينبني عليه حكم فقهي ألا وهو: مسألة الأكل متكئاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إني لا آكل متكئاً) فهل قوله: (إني لا آكل متكئاً) أي: لا آكل وأنا مائل بأحد شقي على الأرض، أو لا آكل وأنا جالس جلسة المتربع التي يسميها أهل بلادنا؟ فأكثر العلماء على أن الاتكاء هو الميل بأحد الشقين على الأرض؛ لقول الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور) ، ففرق في هذا الحديث بين الاتكاء وبين الجلوس.
أما الذين قالوا: إن الاتكاء هو التربع فمنهم: الخطابي رحمه الله تعالى، وابن القيم رحمه الله تعالى، فعلى رأيهما يكره الأكل متربعاً، لكن على رأي الجمهور: أن المكروه هو الأكل وأنت مائل على أحد الشقين إلى الأرض، لكن هل يحرم هذا الأكل وأنت متكئ؟ رسولنا صلى الله عليه وسلم قال:(إني لا آكل متكئاً) ، فهو يتحدث عن نفسه صلى الله عليه وسلم، وهل حديثه عن نفسه يفيد التحريم؟ لا يفيد التحريم إلا مع نص آخر يقوي هذا التحريم، وهذا يجرنا إلى بعض المسائل الفقهية التي فيها أمور تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل مجرد تركه لها صلوات الله وسلامه عليه يجعلها محرمة؟ سنذكر مثالاً لذلك: الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم ليصلي على رجل قد مات، يسأل:(هل عليه دين؟ فإن قالوا: نعم، قال: هل ترك لدينه وفاءً؟ فإن قالوا: لم يترك لدينه وفاءً، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه) لكن مع امتناعه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة عليه يقول: (انطلقوا فصلوا على صاحبكم) ، فهو نفسه عليه الصلاة والسلام لم يصلِّ عليه وإنما قال:(انطلقوا فصلوا على صاحبكم) فلماذا ترك الرسول عليه الصلاة والسلام الصلاة على من عليه دين؟ هل لأن الصلاة على من عليه دين حرام؟ ليست حراماً؛ إذ لو كانت حراماً لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام:(انطلقوا فصلوا على صاحبكم) ، ولكن المفهوم والله سبحانه أعلم بالمراد: أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما امتنع من الصلاة عليه حتى يزجر عن الاستدانة، وحتى يرهب من مسألة الاستدانة، وحتى يحذر من مسألة المماطلة في سداد الديون، وهذا المفهوم بدليل أنه قال للصحابة:(انطلقوا فصلوا على صاحبكم) .
ننتقل إلى مسألة أشد وهي: مسألة المنتحر: (أتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد قتل نفسه بمشاقص، كي يصلي النبي عليه عليه الصلاة والسلام، فلم يصلِّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، لكنه ما نهى الناس عن الصلاة عليه، وما أمر الناس بالصلاة عليه، فلم يقل كما في الحديث السابق:(انطلقوا فصلوا على صاحبكم) ، ولم ينه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة عليه، فلذلك اختلف الفقهاء في مسألة الصلاة على المنتحر: فقال فريق منهم: لا نصلي عليه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ترك الصلاة عليه.
وقال آخرون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ما نهانا، والأصل أن الله قال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:٤٨] ، فهذا رجل مسلم، فمادام مسلماً فالأصل أنه يصلى على المسلمين.
فرأي جمهور العلماء أنه يصلى على المنتحر، وإن ترك بعض أهل الفضل الصلاة عليه؛ زجراً لأمثاله وترهيباً لهم من الانتحار، فلأهل الفضل ذلك؛ حتى ينزجر الناس، وحتى ينكف الناس عن الانتحار، وهذا مأخذ طيب ومأخذ عليه أدلة كثيرة جداً.
وهذا يضطرنا ويسوقنا إلى بيان أفعال لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وسنرجع كرة إلى مسألة العقوبات الرسول عليه الصلاة والسلام جلد شارب الخمر نحواً من أربعين جلدة، فجاء عمر ووجد الناس قد تساهلوا في شرب الخمر، فجلد شارب الخمر نحواً من ثمانين جلدة، وكذلك كان الطلاق الثلاث في المجلس الواحد في عهده عليه الصلاة والسلام طلقة واحدة كما قال ابن عباس في صحيح مسلم، فلما كان في خلافة عمر قال:(أرى الناس قد استعجلوا على هذا الأمر الذي كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضى عمر الثلاث طلقات) .
فنرجع إلى المسائل التي فعلها الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يأمر بها ولم ينه عنها: فالأصل أنها تسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:٢١] لكن ينظر بعد هذا في عمومات أخرى، هل تعارض بهذه المسائل أو لا تعارض؟ وهذا سيجرنا عن قريب إن شاء الله إلى مسألة الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة الليل في رمضان، وسيأتي حولها بحث طويل إن شاء الله.
نرجع إلى قوله تعالى:{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ}[الرحمن:٧٦] فالعبقري الحسان: هي الفرش والوسائد التي يتكأ عليها والبسط الرقيقة، كل هذه مجملة في قوله تعالى:{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ}[الرحمن:٧٦] ، فأقوال العلماء كلها تدور على أنها السجاجيد التي تبسط والوسائد التي يتكأ عليها، أي: أنها أقرب إلى المجالس العربية من (الأنتريهات) ومن (الصالونات) أنها: {رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ}[الرحمن:٧٦] .